أ. د. فالح العجمي
رغم الانتماءات المختلفة لشخصين مثل جهيمان، الذي عاش شبابه واستقى فكره في ظل المد السلفي الإخواني في ستينات القرن الماضي، والقشعمي الذي عاش شبابه بعد قوة ما أسماه الحركيون الإسلاميون «الصحوة» في التسعينات، واستقى فكره من المدونات الرقمية للدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروفة اختصاراً باسم داعش)؛ فإن فكرهما يصب في خانة واحدة، وتبدأ لديهما – كما هي الحال أيضاً في رؤوس القطعان المشابهة – أولى مراحل بناء الكيان الإسلامي المزعوم من التدمير الممنهج والقتل الجماعي المفرط لكل المخطئين في نظرهم.
فهذا التيار المؤيد لتصرفات داعش وخططها، والمهادن لعناصر هذا التنظيم في الداخل والخارج؛ بل والمحرض الشباب على الانضمام له بوصفه متولي راية الجهاد في الأمة، هو نفسه التيار الذي كان يؤيد انضمام الشباب في تلك الأيام إلى خلايا تلك التنظيمات السرية الأهداف، والمعلنة برامجها باسم مخيمات دعوية وأعمال خيرية. لم يختلف شيء كثير بين الحالتين، ولم تتغير الاستراتيجيات، إلا بما يخدم الظروف التي تغيرت، حيث كانت آنذاك الكتيبات وأشرطة الكاسيت كافية للتحريض؛ بينما احتاج الأمر حالياً إلى الاتجاه نحو الانترنت، والدخول إلى قلوب الشباب من خلال المدونات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من الطرق العصرية.
إذن الحمولة الفكرية واحدة في الحالتين، أو يمكننا القول بأنها مستمرة بأشكال وأطر وإخراج مختلف في كل مرة حسب ما يمكن قبوله في الفترة التي يعيشها جسم التنظيم المتحول، وحسب رؤى القائمين على التنظيمات المتعاقبة من رموز سرية، أو دعم من شخصيات علنية لا تظهر الانتماء والتماهي مع فكرهم إلا في اجتماعات مغلقة، أو بصيغ فضفاضة، مثل قول أحدهم مؤخراً: «هم أخواننا وإن بغوا». فهذه الميوعة تجاه تيارات تكفيرية هي ما يشجع هذه الطفيليات على الحياة طول هذه الفترات المختلفة في ظروفها، وفي قدرة الناس بصورة عامة على التمييز؛ لكن تلوّن بعض رموز ما يسمى «التيار الوسطي» هو ما يدلّس على الناس رؤية الأشياء بألوانها الحقيقية. فالمجتمعات التقليدية تعودت على إجلال الرموز الدينية وتصديقها فيما تقول، والتمسك بنصائحها في الأمور الغامضة، خاصة ما يتعلق بقضايا العقيدة والولاء في حالات الالتباس والخوف من ضياع الذمم.
هل تحتاج المجتمعات الإسلامية، وليست العربية فحسب، مزيداً من الوضوح على وجود موضع العلة؟ إذ إن بعض المجتمعات الأفريقية وفي نيجيريا على وجه الخصوص، وبعض الآسيوية وفي أفغانستان وباكستان خاصة، تعاني من الأمراض نفسها التي صدرتها إليهم تلك التنظيمات العربية بصورة تفوق أحياناً الأوضاع العربية بمراحل. بل وحتى في ظل هذه الأوضاع المتأزمة للإسلام الحركي، وليس التعبدي، هناك من يريد إعادة الخلط بين التدين والتحزب للتنظيمات ورموزها العفنة. يموهون في مقولاتهم على مرادهم بإنعاش استراتيجياتهم من جديد، بعد أن حصل الطلاق بينهم وبين عدد من الأنظمة الرسمية العربية، وأصبحوا يتمسكون بكل قوة هنا وهناك، أو خيط أمل بأن يعود لهم الازدهار، الذي عاشوه أيام الثمانينات والتسعينات، أو أن تنتصر قواهم في الخارج الممتدة من الشام والعراق إلى بوكو حرام في نيجيريا، وجيش محمد في باكستان، وغيرها كثير ومتنوع.
ما الذي يجعل هذا الكامخ يطيب طعمه للمنتفعين من استمراريته؟ ليس الإخلاص ولا حب الدين، هو ما يدفع المنظرين والحركيين في كل الأديان إلى التحرك، بل هو حب الجاه والمال. فإذا كانت السلطات التي تريد إزالة وقود الاستمرارية حريصة على جعل هذا الكامخ غير ذي طعم لذيد، فعليها أولاً أن تزيل هذين الدافعين عن بوصلة الفكر الإسلامي المنظم، وسنرى انهيار البنى التنظيمية بسهولة أكثر من المناصحة والتبجيل.