د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لقد عكس هذا المطلع (المتمرد) (الصراع) الكبير الذي يعيشه الشاعر مع (ذاته)، وأفصح عن (تناقض) (الداخل) مع (الخارج)، بما شحنه فيه من (متناقضات) على المستوى (الدلالي) وعلى مستوى (العناصر اللغوية)، فكون المرء يرى أنَّ (الموت) (شفاء)، وينظر إليه على أنه (السبيل) للتخلُّص من (المرض) الذي يعانيه، رغم أنه (الداء) الذي ليس له (دواء) في (الوعي الإنساني)، فهذا أمرٌ في غاية (الغرابة) و(الدهشة)، وكونه يتعامل مع (المنايا) بوصفها (أماني) مع أنَّ النفس البشرية (مهووسةٌ) بالتعلُّق بـ(الحياة) والهروب من (الموت)، فهذا شيءٌ لم يكن في الحسبان إطلاقا، وكلُّ هذه (الدلالات) (تخرق) (نواميس) الطبيعة، وما غُرس في النفس الإنسانية من (عِشق) (للبقاء) و(نفور) من (الفناء).
إنَّ (اجتماع) هذه (المتناقضات) في نفس أبي الطيب يدعو إلى (التأمل) و(التأويل)، فمتى أصبح (الموت) (دواءً) وهو (الداء) الذي لا مفرَّ منه؟ وكيف صارت (المنيَّة) (أمنيةً) وهي التي لا تزال (تفرُّ) منها النفس و(تهرب) من أسبابها؟ لعلَّ مجيء (المطلع) بهذه (الدلالات) (المتناقضة) يُعبِّر عن (رفض) الشاعر لـ(سلبية) الواقع و(ظلمه) بعد (اندحار) القيم، ونظرته إلى هذا العالم بأنه (غريبٌ) (عجيب)، حيث صار (تعسُّف) الواقع أكبر من أن يرضي (أمانيه) وما يطمح إليه، فأرغمه هذا على (ركوب) مطيَّة الأسباب (القذرة)، وشدِّ الرِّحال إلى (كافور) الذي لا يرى فيه الشاعر غير (العبودية) و(السواد)!
إنَّ المتأمل في هذا المطلع (المتمرِّد)، وما يحمله من (دلالات) في غاية (التشاؤم)، حيث يفجع الشاعر ممدوحه منذ الحروف الأولى بتمني (الموت)، والتعامل معه على أنه (الشفاء) و(الدواء)، يلحظ أنها تصوِّر نوعاً من (الاحتجاج الذاتي) على هذه (الرحلة)، و(التبرُّم) من هذه (الزيارة)، ويرى أنَّ توجُّه أبي الطيب إلى (كافور) (مُعادِلٌ موضوعيٌّ) للموت والفناء، بعد الموقف الأخير مع (سيف الدولة)، أميره المحبوب الذي كتب فيه (أجمل) النصوص، ووصفه بـ(أروع) الأوصاف، ورأى فيه (آمالاً) و(أماني) كان (يطمع) في تحقيقها، لكنها (انهارت) و(تبدَّدت) جميعا.
هذه (الخيبة) الكبرى جعلت الشاعر (يفاجئ) (الممدوح) و(المتلقي) معاً بهذا المطلع (غير المتوقع)، و(يباغتهما) بهذه (المقدمة) التي (تنتهك) (أفق التوقع)، و(تفيض) (سخريةً) من هذا الواقع (المرير) الذي يعيشه، وهو ما تنبئ عنه (نبرة) الشاعر و(نغمته)، حيث اضطرته (سُخرية) الزمن إلى أن (يُسخِّر) شعره -الذي طالما (افتخر) به و(تغنَّى) بجماله وروعته و(اعتزَّ) به و(تعالى) على غيره من خلاله- في خدمة هذا (العبد) المملوك، و(الأسود) الذي لم يصل إلى هذا المنصب (الرفيع) إلا بواسطة (الغدر) و(الخيانة) من وجهة نظره.
هذه المقدِّمة (المتمرِّدة) أبانت عن (شعور) كبير بـ(الغربة)، وأفصحت عن (سُخرية) مريرة كان الشاعر يواجهها من هذه الحياة (المخادعة)، فقد (انصرمت) الأسباب بينه وبين (المجتمع) الذي يعيش فيه، و(ضاع) كل ما كان يربطه بـ(الواقع)، حتى أمسى (الموت) (أمنية)! وكأنَّ الشاعر خرج من (دائرة الحركة/ الدائرة الاجتماعية) إلى (دائرة السكون/الغربة والعزلة)، وهو (الخروج) الذي أدَّى إليه (فقدان) ثقته بالعالم، وما أحاط به من (تناقضات) و(اضطرابات) و(انهيار) في (القيم) كما يراها، وهنا أضحى الشاعر في حالة (متأزِّمة)، و(استوى) عنده (السكونان): سكون (الغربة) و(العزلة) الذي (فقد) معه طعم الحياة وما فيها من (متعة) و(لذَّة)، وسكون (الموت) الذي ليس له (شفاء)، ومن هنا كان تمنِّي (الفناء) (هروباً) من (الذات) في لحظة (ضعف) إنسانيّ و(تمزُّق) نفسيّ لم يتمكَّن معه الشاعر من (تقبُّل) (الواقع)، فاضطرَّ إلى هذا (الهروب).
لقد تضمَّن هذا المطلع (شحنةً) كبرى من الشعور بـ(الفاجعة)، تسلَّلت إلى (النصِّ) بأكمله، وانعكست على مستوى (التجربة) الشعرية (فكرياً) و(فنياً)، مؤكِّدةً (عِظَم) نفس الشاعر، التي يُسيِّرها (طموحٌ) دائم، و(جدلٌ) مستمرٌّ بين ما (يأمله) وما (يعيشه)، بين (طموحه) و(واقعه)، ذلك (الطموح) الذي ليس له حد، في مقابل (واقع) (عقيم) (بشع)، هذه النفس (الأبية) التي لا تقبل (الرضا) بالواقع، وتعيش في (حُلم) العظمة و(خيال) العلو والارتقاء.
إنَّ (الغربة) و(الضيق) التي يشعر بهما (المتلقي) حين (تلطمه) هذه الافتتاحية (المتشائمة) يكشفان عن (حقيقة) استقرَّت في (وعي) الشاعر، وربما في (اللاوعي)، وهي أنَّ (رحلته) هذه (ستضيع) هباءً، وأنه لن يجد عند (كافور) ما يمكن أن (يُعوِّض) به (خيبته)، بل إنَّ الأمر يتجاوز إلى أبعد من ذلك، حيث (يؤمن) أيضاً أنَّ فكرة شدِّ الرحال إليه هي قِمَّة (السخرية) (المأساوية)، بل هو (الموت) الذي ليس له (شفاء)، و(المنية) التي ليس لها (دواء).
لقد أدَّى (خروج) الشاعر (المقصود) عن (المألوف) و(المعهود) إلى (اشتداد) (ضغط) الشعور بـ(سلبية) الواقع، وتسبَّب هذا (المطلع) الذي (فاجأ) المتلقي و(كسر) كلَّ توقعاته بالإحساس بـ(بشاعة) ما كان يعيشه الشاعر، و(انهيار) القيم في محيطه، كما (عمَّق) من شدَّة ما أصاب أبو الطيب من (مأساة) و(ظلم)، حين رأى هذا الملك (الأعجمي) (الأسود) (يتحكَّم) في (مصير) الأمة، وهو أمرٌ (غير متوقَّع)، و(ساخرٌ) حدَّ (الألم)، فجاء هذا المطلع (المتمرِّد) (انعكاساً) لهذه (الدلالات).
***
إنَّ (مطالع) النصوص (إبداعٌ) بحدِّ ذاته، وصياغة (افتتاحياتها) ليست بالأمر السهل الذي (يُتاح) لكلِّ أحد، إنَّ (البراعة) في (الابتداء) و(الإبداع) في (الاستهلال) يحتاج (مبدعاً) (متفرِّداً) يمكنه أن (يجذب) الانتباه، و(يلفت) الأنظار، و(يوقف) القلوب، و(يحبس) الأنفاس، إذا أراد حقاً أن يجعل الجميع (مصغين) بكلِّ جوارحهم إلى (حروفه)، و(منتظرين) بفارغ الصبر (فكرته) و(دلالاته)، وحين يأتي المطلع (متمرداً)، (خارجاً) عن المألوف، (كاسراً) كلَّ التوقعات، و(مخلخلاً) آفاق الانتظار، (مشحوناً) بما (يعتلج) في نفسية الشاعر و(يتوقَّد) في فؤاده، (متناغماً) مع غرضه ومعانيه في النص، فهو (الجمال) الذي ليس بعده جمال، و(الإبداع) الذي ليس وراءه إبداع.