د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الحياة هبة من الخالق وهبها لبعض من خلقه فقط، فهذه البلايين التي تعيش على هذه الأرض ليسوا سوى الفئة المحظية بهذه الحياة. ولذا فقد أمرنا الله باحترام الحياة والحفاظ عليها كنعمة من نعم الله، ونهانا عن العبث بها والإفساد في الأرض، وقد نهى الرسول عن قطع الشجر حتى كان البعض يرى أنه حرام. وعمومًا فقد نهى الدين
عن إزهاق روح الكائنات الأخرى أو العبث بالطبيعة من دون حاجة أو سبب وجيه. ومن احترام أسلافنا للطبيعة أن تعتبر الزخارف النباتية من الأسس التي قام عليها الفن الإسلامي، وقد أخذت بعض أشكال الخط العربي، وهو فن يسطر النفيس والحكيم في الثقافة الإسلامية من آيات وأقوال وحكم، أشكال بعض الأشجار والثمار. وقد أرسل الله رسل بلغات أقوام مختلفة اشتركت جميعها على الحض على حب الحياة وضرورة احترام الطبيعة. ولكن الديانات تمر بمراحل تستغل فيها لنشر ثقافة عدمية تقلل من قيمة الحياة وتركز على الحياة الآخرة فقط، مرت بذلك اليهودية، والبوذية، المسيحية. وقد انتشرت الثقافة العدمية في أوروبا المسيحية خلال الحروب الصليبية.
وفي أكثر من مكان سياحي زرته في العالم وجدت عناية كبيرة بالعناية بالجوانب الثقافية فيها ومن أهمها الحفاظ على الحياة والطبيعة. فالترفيه يقترن بالتثقيف، ومع العولمة التي يشهدها العالم اليوم بدأ الاهتمام بالطبيعة على مستوى عالمي وظهرت قضايا تشغل العالم مثل التلوث، والاحتباس الحراري، وارتفاع حرارة الأرض. وما إن تزور معلمًا سياحيًا أو حديقة عامة أو مدينة ملاهٍ إلا تشاهد تلاميذ المدارس وبرفقتهم مدرسيهم يعلمونهم على الطبيعة عن الطبيعة ويزرعون فيهم حبها والحفاظ عليها. وفي جميع عواصم العالم الكبيرة تجد متاحف للطبيعة كلفت مليارات الدولارات وتوظف أساسًا للتعليم عن جوانب الحياة، وللتثقيف للحفاظ عليها والحفاظ على الطبيعة المحيطة بها. فالسياحة ثقافة وليست استرخاء وارتخاء فقط، وعندما يزرع في النشء حب شيء ما فإنه يكبر وهو يستمتع به، ونحن نقول في المثل أن من شب على شيء شاب عليه.
ومؤخرًا كنت في أحد دول شرق آسيا وزرت حديقة سياحية كبيرة ولاحظت النظافة الفائقة للناس، والتزامهم الكامل بالنظام، فلا أحد يلقي أي شيء صغيرًا كان أو كبيرًا في الطريق، بل إن في هذه الدولة الحديثة التطور هناك حاويات مختلفة للقمامة تفرزها تمهيدًا لإعادة تدويرها. وشاهدت كثيرًا من إخواننا الآسيويين الذين يقيم أقرانهم بيننا ولاحظت الفرق بين تصرفهم هناك وتصرفهم في مدننا. فلاحظت أن الآسيوي في هذه البلاد يحمل منديل الورق أو قارورة المياه البلاستيك الفارغة في يده لوقت طويل حتى يجد حاوية يضعها فيها. بينما لدينا يلقي بها على الرصيف تأسيًا ببعضنا ممن تنقصهم ثقافة النظافة واحترام الآخرين. بل إن بعض المقيمين بل به الاستهتار ببيئتنا وللأسف أن يفتح باب سيارته عند التوقف ويبصق أمام الجميع على الطريق. ومن الأمثال في ثقافتنا أن من عاشر قوم أربعين يومًا صار منهم، أي تصرف مثلهم. وفي مدن هذه الدول غير المسلمة تباع أكياس النايلون بمقابل مادي ليمتنع الناس من تجميعها وإلقائها في الطرق. وهم يلتزمون بالحفاظ على الماء وهم على أنهار بينما نحن نهدره ونحن بالكاد نحصل عليه من البحر والآبار.
وفي حديقة ترفيه كبيرة (ملاهٍ) وضعت مجموعة من الحيوانات القطبية في أجواء باردة، وأخرى من حيوانات الغابات الاستوائية في أجواء رطبة، وغيرها من الطيور والحشرات ليثقف العامة والأطفال عنها. وكان ملاحظًا إقبال الأطفال بشغف عليها بينما اهتم بعض شبابنا الموجودين بالمراجيح وباعة البطاطس المقلية فقط. ووضعت لوحات تبين أهمية الحفاظ عليها وعلى المناخ العالمي من التلوث والسخونة. ولفت انتباهي لوحات كتبت عن هجرة الحيوانات والطيور للحفاظ على البقاء وضرورة تقديم المساعدة لهذه الطيور من غذاء وماء لضرورة مساعدتها على البقاء والاستمرار في الحياة.
ونحن بالطبع نعتبر هؤلاء الناس كفارًا لا دين لهم مثل ديننا ولا شريعة لهم مثل شريعتنا السمحة، ونفاخرهم بأن ديننا هو الهدي القويم. ولكننا لا نقارن أنفسنا بطريقة الآخرين في العيش وتطور نظرتهم للحياة والطبيعة. والبعض منا بدلاً من أن يأخذ التلاميذ للحدائق ليثقفهم بضرورة الحفاظ على الطبيعة والحياة يأخذهم للمقابر ليقنعهم بتفاهة الحياة، وبضرورة عدم الالتفات إليها والتركيز على الحياة الآخرة فقط، وهذه ما يدخل في نفوسهم ثقافة عدمية تعبث بكل شيء حولها. فبالرغم من أننا نعيش في أكثر بقاع الأرض حرارة وفقرًا طبيعيًا إلا أننا لا نعير ارتفاع حرارة الأرض والتلوث الطبيعي الانتباه الكافي. ونحن نقطع الأشجار القلية لدينا ليس لحاجة غالبًا وإنما لحرقها في مواقد في الشتاء بشكل مسرف يهدف في الغالب للتفاخر والهياط.
كما أن انعدام الثقافة البيئية في مدارسنا ومؤسساتنا، وتفشي الثقافة العدمية بينهم دفع بشبابنا لإعلان حرب شعواء على أي كائن يعيش في بيئتنا، فلم يسلم أي حيوان زاحف أو سابح أو طائر من بطشهم، بل إن محاولات الدولة في إعادة تأهيل صحارينا بيئيًا اصطدمت بهم. والبعض يفاخر بعدد مخلوقات الله الضعيفة التي يقتلها ببنادق حديثة وأسلحة وتقنيات تستخدم عادة في الحروب تقضي على كل ما حولها. حتى الضبان والجرابيع، والحيوانات القليلة القادرة على تحمل طبيعتنا القاسية لم تسلم منهم. والبعض منهم يصطاد حيوانات مهاجرة متعبة انهكها الطيران بإعداد كبيرة جدًا تبلغ الآلاف أحيانًا بحجة حاجته لأكلها!! بل ويفاخر بفعله الجنوني الباطش. هذه الطيور التي أباحت الشريعة أكلها للضرورة فقط لو قيض لأسلافنا ما لدينا من نعم اليوم لتقززوا منها، فالطيران المتواصل وقلة الغذاء تجعل طعمها غير مستساغ.
الشباب لدينا يتفاخر بالقضاء على الطبيعة بينما يتفاخر شباب العالم الآخر بالمشاركة في الحفاظ عليها وهذا بلا شك ليس شيئًا طبيعيًا من فطرتنا بل نتيجة لأنماط ثقافتنا التي تعود بالدرجة الأولى لتعليمنا. فالبعض يفكر فقط من منطق ديني ضيق، هل ما يفعله حلال أم حرام؟ وينظر للأمر من خلال موروثه الذي انطلق من سياق معيشي وحضاري مختلف تمامًا عن سياقنا، فالإسلام أحل صيد الطيور والطرائد عندما كان الناس يركبون الحمير، والبغال، والجمال، والخيول، ويستخدمون النبل للصيد. أما اليوم فتستخدم السيارات الحديثة، وأجهزة السبر الفضائي، والبنادق الآلية، أجهزة تستخدم للحرب أساسًا. والإسلام أباح الصيد للأكل والحاجة فقط وليس للقتل والتفاخر، فهل من يصطاد 500 ضب أو 2000 طائر يعمل بمبدأ الصيد الذي أباحه الإسلام؟ وهل من يقطع الأشجار للسمر حولها ودونما حاجة فعلية للتدفئة يفعل أمرًا متماشيًا مع الشريعة؟ أليست هذه جميعها من أعمال الإفساد في الأرض؟ إفساد الأرض للأجيال القادمة التي لن نخلف لها سوى أراض ملوثة جرداء لا مجال لاستصلاحها. ألسنا نخالف أمر الرسول بأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟ أليست الأنانية المكروهة فطريًا مكروهة دينيًا؟ أليس العبث بالطبيعة بهذا الشكل وجهًا آخر من وجوه الثقافة العدمية التي خلقت الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم هروبًا من هذه الحياة وزهدًا فيها؟ هذه أسئلة تحتاج لإجابات جادة، واجتهادات جريئة لم تعد اليوم ضرورية بل أصبحت مصيرية. فالله وهبنا العقل لنقيس به شريعته على عقولنا اليوم وظروفنا الحالية لا أن نجتر ما كتبه أسلافنا عن حاجاتهم وطبيعتهم وفقًا لتصورات زمانهم. فالعالم مر بثورات مصيرية متعاقبة: الكهرباء، الصناعة، الطباعة، المعلوماتية، الثقافة البيئية الخ. أمور نعمنا بها ولم ينعم بها أسلافنا، فيجب أن يكون البعض اجتهادًا وقياسنا المتعلق بأمور بيئتنا حسب معاييرنا لا معاييرهم.