عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم الريس ">
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان من أفضل شهور العام، وفَضَّل أيامه على سائر الأيام، وعَمَّرَ نهارَه بالصيام، ونَوَّرَ ليله بالقيام، نحمدهُ ونشكرهُ أَنْ هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا بإدراك شهر الصيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ تَفَرَّدَ بالكمال والتمام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ سيِّدُ الأنام، وأفضلُ من صلَّى وزكَّى وحَجَّ وصام، وأَتقى من تهجَّد لله وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ على الدوام، صلاةً دائمةً ما تعاقب الضياءُ والظلام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
إخواني: لقد أظلنا شهرٌ كريمٌ وموسمٌ عظيم، خصَّهُ الله تعالى بالتشريف والتكريم، وأنزل فيه القرآن العظيم، يُعَظِّمُ الله فيه الأجر ويُجْزِلُ المواهب، ويفتحُ أبوابَ الخيرِ فيه لكل راغب، شهرُ الخيرات والبركات، شهرُ المِنَح والهبات، شهرُ رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
إخواني: هذه وقفاتٌ لمن أدرك شهر رمضان، لعل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بها، فقد قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
الوقفة الأولى:
أن يتذكر الإنسان أنه لم يُخْلَق ولم يوجد في هذه الدنيا إلا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فحقٌّ علينا أن نعتنيَ لِمَا خُلِقْنا له، ونُحْسِنَ عبادتنا لله تعالى، ونؤدِّيَها على أكمل وجه، والصيام من أعظم العبادات وأَجَلِّ القُرُبات.
الوقفة الثانية:
أننا ـ ولله الحمد ـ نتقلَّب في نِعَمِ الله تعالى، أمنٌ في الأوطان، وصحةٌ في الأبدان، وسَعَةٌ في الأرزاق، وغيرها من النِّعم، فعلينا واجب شُكْرِ الله عز وجل على هذه النِّعم العظيمة بالقول وبالفعل، وأعظمُ أنواع الشكر طاعةُ الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فإن النِّعَمَ تدوم بالشكر، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
الوقفة الثالثة:
أن تعلم أن من نِعَم الله عليك أن مَدَّ في عُمُرِك وجعلك تُدرك هذا الشهر الكريم، فكم غَيَّبَ الموت من صاحب! ووارى الثرى من حبيب! فإن طولَ العُمُرِ والبقاءِ على الحياةِ فرصةٌ للتزوُّدِ من الطاعات، والتقرُّب إلى الله عز وجل بالعمل الصالح، فرأسُ مالِ المسلمِ هو عُمُرُهُ الذي يُمضيه في طاعة الله تعالى.
فاحرص على أوقاتك وساعاتِك حتى لا تضيع عليك، واجعل لك نصيبًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سَقَمِك، وغِنَاك قبل فقرك، وفراغَكَ قبل شُغْلِك، وحياتَكَ قبل موتك» [رواه الحاكم].
واحرص أن تكون من خيار الناس كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ قال: «من طال عُمُرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ». قال: فأيُّ الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساءَ عمله» [رواه مسلم].
الوقفة الرابعة:
عَوِّد نفسك على ذكر الله تعالى في كل وقت، وعلى كل حال، وَلْيَكُنْ لسانُكَ رَطْبًا بذكر الله عز وجل في رمضان وفي غيره، وحافظ على الأدعية والأوراد الشرعية، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41-42]. وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه» [رواه مسلم].
واحفظ لسانك من الغَيْبة والنميمة وفاحش القول، واحْبِسه عن كل ما يُغضب الله تعالى، وأَلْزِم نفسك الكلام الطيِّب الجميل، وليكن لسانك رطبًا بذكر الله.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ: أنه ليس لكم من دنياكم إلا ما أمْضَيْتموه في طاعة مولاكم، فاغتنموا الفرصة ما دمتم في زمن الحياة، وهُبُّوا إلى الإكثار من ذكر الله تعالى، والتزوُّد من الطاعات والقربات قبل الممات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» [رواه مسلم].
الوقفة الخامسة:
احرص على قراءة القرآن كل يوم، خصوصًا في شهر رمضان؛ لأنه شهر القرآن، وقد ورد في فضل قراءة القرآن ما تَقَرُّ به النفوس، وتهنأُ به القلوب.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأَ حرفًا من كتاب الله فلهُ بِهِ حسنةٌ، والحسنةُ بعشرةِ أمثالها، لا أقولُ {أَلَم} حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ» [رواه الترمذي والحاكم].
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غ يقول: «اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» [رواه مسلم].
الوقفة السادسة:
شهر رمضان فرصة عظيمة للدعوة إلى الله تعالى بالقول وبالفعل؛ أما القول: ففي بيان الحق والدعوة إليه، وتوجيه الناس للخير ونصيحتهم، فإن القلوب تلين في هذا الشهر أكثر من غيره، وأما الفعل: بأن تكون قدوة صالحة يقتدي بك الناس في أقوالك وأفعالك وصفاتك الطيبة وخِصَالك الحميدة من خلال اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «فواللهِ لَأَن يهديَ اللهُ بِكَ رجلًا واحدًا خيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم» [متفق عليه].
الوقفة السابعة:
أن شهر رمضان فرصة عظيمة لإصلاح النفس وتربيتها على الخير والصلاح، فكثير من الناس ولله الحمد يود الخير ويحب أن يكون له نصيب من الطاعات ولكن تغلبه نفسه تثاقلًا وكسلًا، فلو أن أحدكم إذا أصبح افتتح نهاره بقراءة وفهْمِ وتدبُّرِ شيءٍ من القرآن، وقرأ أوراد الصباح والمساء، وأكثر من ذكر ربِّه في السر والإعلان، وانتهز الفرصة في المبادرة إلى المسجد في أول وقت الصلاة، ففعل ما يسَّره الله له من صلاةٍ وذكرٍ وقراءةٍ وانتظارٍ للعبادات، وجعل له وردًا من صلاة الليل ولو قليلًا، لو أن أحدكم عوَّدَ نفسه على ذلك لحصَّل خيرًا كثيرًا، ونال أجرًا كبيرًا، ومع هذا فهل ترى هذا العملُ أخلَّ بشيء من مصالح دنياك وراحتِك؟ أو فوَّتَ عليك شيئًا من أغراض معيشتِك؟ وهل فقدتَ بهذا شيئًا مهمٍ لحاجتك؟ أم أن هذا الترتيب عونٌ لك على هذه الأمور، ومغنمٌ تنال به الأرباح والأجور؟ فقارن ووازن رحمك الله، بين هذا الأمر الذي ترى نفسك قادرةٌ عليه، وتراها مُيَسَّرةٌ مقرِّبةٌ لك إلى مولاك، مُدنِيَةٌ إليه، وبين تفويتها غفلةً وكسلًا عن المأمور.. هل حصل لك بالتفوِيت زيادة أُنسٍ وسرور؟ وهل وفَّرَ لك حصول منفعة أو دفع شيء من الشرور؟ لا والله، لا يتم لمؤمن سرور في دنياه، حتى يرى أنه أدرك حظًّا وافرًا ونصيبًا من طاعة مولاه؛ وانظر إلى أفرادٍ مُوَفَّقين رتَّبوا في الخير أوقاتهم، وأخذوا نصيبًا مباركًا من طاعة الله تعالى وأدركوا راحاتهم، فهل فاتهم مما يتنافس فيه الناس شيء؟ أم حصل لهم بهذا العملِ كلُّ شيء؟ فلم ينفرد الناس عنهم بغرضٍ من الأغراض ولا لذَّةٍ من اللذات، بل شاركوهم في جميع المصالح وفاتوهم بنيل المكارم والقربات.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
اللهم يا من لا تشتبه عليه اللغات، ولا تختلف عليه الأصوات، ولا يَتَبَرَّمُ من إلحاح ذوي الحاجات، اجعل مآلنا إلى الجنات، واجعلنا ممن يصوم رمضان ويقومه إيمانًا واحتسابًا، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويَسِّر أمورنا، وكَفِّر عنا سيئاتنا، واختم بالصالحات أعمالنا، واجعل عملنا مقبولًا، وسعينًا مشكورًا، وذنبنا مغفورًا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، واجعلنا في هذا الشهر من المقبولين، واجعلنا من عتقائك من النار يا رب العالمين، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.