خالد بن عبدالله الغليقة ">
منذ زمن ليس بقريب حصل انفصام تام وقطيعة كاملة بين الحكم والثقافة، فإما حاكما وإما مثقفا، فصارت هذه الثنائية وذلك التمايز سمة بارزة للحكام والأمراء المتأخرين، فلا تجتمع السياسة مع الثقافة، حتى كاد كثير من الناس يظن أنهما لا تلتقيان. لكن قد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا، فلقد جمع الله بينهما في شخص الملك سلمان، السياسي المثقف، فهذا استثناء من القاعدة! ولكاتب هذه السطور حكاية كتاب مع الملك سلمان، من بين كثير من الحكايات، ومع كثير من المؤلفين والمؤرخين، فلقد طبعت كتابي (مكانة المنطقة الشرقية في السعودية- إخراجها من مسمى جزيرة العرب خطأ فقهي وسياسي وسيادي)، وبعد أيام عدة إذا بطلب كريم يصلني من مكتبه للحضور في إمارة الرياض للقاء به -حين كان أميرها-، وجدت حاكماً عالماً يتكلم عن دقائق في تاريخ جزيرة العرب وجغرافيتها، وعن رأي الفقهاء في مصطلح جزيرة العرب، فكان من رأيه أن من الخطأ أن يأتي شخص لكلام الفقهاء الأوائل في قولهم جزيرة العرب هي الحجاز، فيأخذ من ذلك أنهم يخرجون بقية المناطق من مسمى جزيرة العرب.
خرجت من اللقاء بتكليف سامٍ بالبحث في الحد الشمالي لجزيرة العرب، الذي هو محل اختلاف كبير بين الجغرافيين الأوائل، وبعد ستة أشهر قدمت إليه ما توصلت إليه في بحث مطبوع، وبعد أيام طلب مني نسخاً من البحث ليعرضها على الدكتور عبدالعزيز الخويطر والدكتور غازي القصيبي، وقال: أحب أن أستشيرهما.
بعدها سافر إلى خارج المملكة، وإذا بالشيخ الطلعة منصور مهران يطلب الاطلاع على فصل من كتاب طبع حديثاً عن حدود جزيرة العرب وكتابة رأي حوله، بحسب طلب سامٍ أيضاً.
منذ اللقاء الأول بالملك سلمان حتى كتابة هذه السطور ما زالت الدهشة والاستغراب تتملكاني، كيف استطاع الجمع بين أعباء الحكم الكثيرة ومهامها الجسيمة ومسؤولياتها الكبيرة، من لقاءات واجتماعات ورئاسة لجان ومؤسسات وجمعيات، وكيف استطاع الجمع بين كل ذلك والاطلاع على الكتب والقراءة ومتابعة ما يكتب وماذا كتب؟! والغريب أن مثل هذه الحكاية حصلت لكثير من المؤلفين والصحفيين مع الملك سلمان، لكن السؤال المهم هنا: هل انتهت هذه الحكاية بعدما تولى ولاية العهد فمهامها أكثر وأوسع من مهام إمارة الرياض، فهي الدولة كلها، ومعها وزارة الدفاع، ونائب رئيس مجلس الوزراء؟ وهل ستنتهي بعد توليه الملك وتسنمه سدة الحكم في المملكة؟
جزمت أن الملك المثقف أو الملك المؤرخ سيتوقف عن القراءة، وينشغل وينتهي زمن الاطلاع، ويغادر الثقافة والكتب، لكن بعد ولاية العهد تبين لي ولغيري من المؤلفين والكتاب أن الاستثناء ما زال قائماً، ولم يتغير شيء كبير لديه، وكأن المهام الكبيرة والمسؤوليات الكثيرة لم تزده إلا تمسكاًَ بالاطلاع والقراءة والكتاب، ففي أحد الأيام من شهر شعبان 1434هـ، حين كان ولياً للعهد، اتصل مكتبه بكاتب هذه السطور يطلب إليه الانتظار قليلاً، لأنه يريد محادثته، وقد تكلم عن كتاب سبق أن أهديته إليه، بعنوان: (ملحمة التوحيد: الترابط بين الدين الصحيح والجغرافيا والسيادة والتنمية)، ثم طلب إليّ أن أحضر إلى مكتبه يوم السبت، ولما حضرت إذا به يقرأ من ملاحظات وإفادات كتبت على هامش الكتاب، ومن الطريف أن بعض الأحداث التي ذكرتها في الكتاب منقولة من بعض الكتب، وإذا به يضيف بأنه هو من قام بذلك وشارك في صناعة تلك الأحداث! ولشدة دهشتي تجرأت بطرح سؤال عليه: لماذا لم تكتب هذه الأحداث في وقتها بالتفصيل مع ذكر الأشخاص؟! فقال: ليس كل ما يفعل في ذلك الوقت يذاع ويكتب في حينه، فقد يكون غير مناسب.
إن هذا التواصل بين السياسة والثقافة، وهذا الاتصال بين الملك وطلبة العلم هو مما يحمد للملك سلمان، وهو رسالة من مقامه السامي بألا تعارض بين السياسة والقراءة والثقافة، وألا تضاد بين الحكم والبحث والدرس، بل إن أحدهما مكمل للآخر ومعين له، فالحكم يحتاج إلى المعلومة، والمعلومة تحتاج إلى الحكم.