د. عبدالرحمن الشلاش
قصة ثرية في تفاصيلها عميقة في معانيها ليست مـن نسج الخيال بل من واقع الحياة الذي نعيش دوامته صباح مساء. أحد الصبية الصغار كان يلعب مع أترابه في الحي وأثناء جريه لإحضار الكرة التي ركلها أحد الصغار بعيداً عن الملعب مرت سيارة مسرعة فدهسته وفارق الحياة الصاخبة في ذات اللحظة الكئيبة التي نزلت فجأة لتغير وجه الحياة من الفرح العارم إلى الحزن والبكاء والأسى. في تلك الأثناء حضر الأب المكلوم وقد بلغه خبر الفجيعة ليحمل ابنه بين ذراعيه والدموع تسيل على خديه قبل أن يرفع رأسه ليصافح وجه الجاني ومن اغتال البراءة في مهدها غير متعمد.
في هذه اللحظات العصيبة والثقيلة والتي تنوء بحملها الجبال الرواسي كان الجميع ينتظرون من الأب طلب القبض على الجاني وإيداعه السجن ودفع الدية إلا أن الأب المؤمن بقضاء الله وقدره تحامل على كل آلامه واستجمع قواه الخائرة ودفن حزنه في قلبه وسلم أمره لربه ليعلن وسط دهشة الجميع عفوه عن الجاني، ثم مضى مع جمع من الناس لتجهيز جثمان ثمرة فؤاده والصلاة عليه ومواراته الثرى.
هذه القصة كشفت عن قدرة خارقة لدى الأب المصدوم على قلب الصفحة رغم فداحة الجرم وهول الفاجعة وكمية الحزن الذي يسكن جسده المنهك، وسحابة الهموم التي تجثم على رأسه. في لحظة عفا عن الجاني، وبعدها بلحظات تدبر أمر ابنه ثم عاش حزن فراقه، ولإيمانه أن من مضى لن يعود، وأن الحزن مهما طالت مدته لن يجدي!! طوى تلك الصفحة رغم ما فيها من مرارات وقلب الصفحة ليكتب من أول السطر حكاية جديدة ربما يكون بين ثناياها تفاصيل جميلة تخفف كثيراً من ألم الماضي.
هذه القصة أعادتني لربط تفاصيلها بمواقف تحدث للبعض قد تكون أقل ألماً بل ربما بعضها تافه لكن تجدهم لا يستطيعون تجاوز تلك المواقف، بل أنهم يقعون أسرى داخل تفاصيل تلك الصفحة وأحداثها ولا يستطيعون المبادرة بقلب الصفحة لكتابة سطور جديدة.
صديقان يتشاجران نتيجة لاختلاف في وجهات النظر وفي نفس اللحظة يتصالحان بمبادرة من أحدهما نتيجة لأنه إنسان إيجابي ينظر لمزايا صاحبه أكثر من تدقيقه في سلبياته، لذلك هناك من يتجاوز عن إساءة، ومن يصفح عن خطأ، ومن يغفر زلة لسان ومن يمحو بمحض إرادته سلوك أرعن استهدفه شخصياً، وهناك من يغض طرفه عن كثير من الحركات غير اللائقة، مثل هذه النوعيات الجميلة تجدهم أقدر الناس على التعاطي مع كل الأحداث وأكثرهم مرونة؛ لأنهم يدركون أن نقل أحداث اليوم الصغيرة والتافهة يعني تعطيل الغد؛ لذلك يبدأون اليوم الجديد بصفحة بيضاء يكتبون فيها من أول السطر.
أدرك أن قدرات الناس متباينة؛ فمنهم من يتجاوز أعظم المواقف وهؤلاء قليل، ومنهم من يحبس نفسه في مشكلة صغيرة جدا، بل يقاطع أعز أصدقائه لمجرد أنه لم يوجه له دعوة لحضور مناسبة تخصه، أو أنه لم يقدم له خدمة طلبها منه! جرب أن تقلب الصفحة، لكن عليك أن « تتعلم كيف تنسى.. وتتعلم كيف تمحو « لتعيش حياتك قدر المستطاع بعيداً عن المنغصات والمكدرات.