عبدالعزيز السماري
تنتشر ظاهرة التطرف في العصر الراهن، وتتميز بنمط مخالف لظاهرة الصحوة، والتي قدمت في بداياتها نموذجاً من التدين المتطرف، وكان له انتشار وقبول نسبي بين الشباب في ذلك الوقت، بينما أخذ التطرف في الوقت الحالي حالة مختلفة عن نموذج التطرف القديم، ويتسم بظاهرة الإيمان بالتشدد والتطرف عقلاً، لكن يتناقض مع سلوك المرء في تصرفاته اليومية، وقد أصبح ظاهره في المجتمع، لذلك قد تسمع بين حين والآخر تأييد لداعش والقاعدة، أو للجماعات الشيعية المتطرفة من شباب لا تبدو عليهم مظاهر التدين، بل يمارسون متع الحياة من أوسع أبوابها.
يعد هؤلاء بمثابة الطابور الخفي لقيادات التطرف الطائفي عند الشيعة والسنّة، ويستغل هؤلاء القادة شعورهم بالتقصير في سلوكهم وتصرفاتهم، ليكونوا بمثابة القنابل الموقوتة، التي قد تنفجر في وجه المجتمع في أي لحظه من أجل التكفير عن ذنوبهم وتقصيرهم الديني، ويشكل هذا النمط نسبة غير قليلة من الشباب، وتقف عدة عوامل خلف ظهورهم بتلك الصورة، ومنها ازدواجية الرسالة التي تصل إليهم.
فمن ناحية يتعلمون في مدارسهم أو حلقاتهم الدينية الآراء المتشددة في أوجه الحياة، وعندما ينتهون من ذلك يتلقون رسائل مختلفة من المجتمع وبقية العالم، يستمتعون من خلالها بمظاهر حب الحياة، وما يكتنفها من جمال ومتعه، وبرغم من الانفتاح الاجتماعي على الآخر، يظلون أسرى للتعليم الديني المتطرف، الذي يبرز من خلال أحاديثهم، ويبدون من خلاله إنكارهم لسلوكهم اليومي، وشعورهم بالذنب بما يقترفونه من مخالفات لأوامر العقل المتشدد، وهي حالة تزيد مع مرور الزمن، وقد تنتهي بأحدهم إلى الانتحار الديني من أجل الشهادة، وبالتالي التكفير عن الذنوب، ومحو السيئات التي نالوها حسب اعتقادهم المتطرف.
ظاهرة التشدد في الطرح الديني لها جذور، وتقوم على مرجعية ترفض الخيارات المتساهلة في الدين، وتميل دوماً إلى الأحكام الشرعية الأكثر تشدداً، فعلى سبيل المثال يختار صاحب المنهج المتشدد الرأي الذي يقول بوجوب غطاء وجه المرأة، ويرفض الرأي المشروع والمقبول بجواز كشف وجهها مع تغطية شعرها، ويختار المفتي المتشدد الرأي الذي يقول بحرمة سماع الموسيقى والغناء، برغم من وجود آراء تستند إلى أدله شرعيه تقول بجوازه، ويختار المتطرف الرأي المتشدد الذي يحرم الاختلاط بين الرجال والنساء، في حين يتفق الفقهاء الأوائل على غير ذلك.
كذلك تنتشر بين تيار التشدد السائد ظاهرة الإقصاء للمفتين الذين يخالفونهم في تدريس المنهج المتشدد، عندما يفتون بالرأي الآخر والأكثر يسراً في أحكامه، وقد عانى بعض المفتين الذين يقولون بجواز الموسيقى من الإقصاء أو بجواز الاختلاط في مكان العمل، وعادة ما نسمع نبرة الإقصاء للمفتي المخالف من شاب يستمتع بسماع الموسيقى ويختلط في عمله مع النساء، ولكن ملتزم بأيدولوجيا التشدد عقلياً، وتعلم في مدارسها أن يرفض فتاوى المفتي الأكثر تساهلاً وتسامحاً، وكأنه بذلك يشدد على تبعيته للتطرف مع اختلاف السلوك.
قد مرت مثل هذه الحالة على الغرب، وكانت أشد مراحلها دموية فترة النازية في ألمانيا، والتي قامت على أيدولوجيا دينية متشددة، لكنها غير ملتزمة بالتعاليم الدنيوية للمسيحية، ولكنها تعوض عن ذلك بظاهرة الدموية المفرطة، وقد عاشت أوروبا عقدين من الرعب بسبب انتشارها بين الشباب الألماني، ولازالت تلك الظاهرة موجودة في الجنوب الأمريكي، ويعبر عنها نادراً شباب أبيض متطرف في صور دموية مروعة.
لكن الاختلاف في الشرق العربي أنها في أوج عصرها، وتساهم في الدمار والهلاك التي تعيشه بعض الدول العربية، ولازالت مصدر تهديد لكيانات مستقره، ولعل الفشل التنموي والذي يشمل أوجه التعليم والعمل في المجتمعات من أهم أسباب صعود ظاهرة الغضب الدموي، فالتعليم كان ولا زال يقوم على تدريس أيدولوجيا التشدد من أجل مصالح سياسية، بينما تغيب البرامج التدريبية والمناهج التعليمية وبيئة الشركات الكبرى التي توفر لهؤلاء الشباب مناخ فكري متصالح بين السلوك والعقل، وتمنحهم فرص للعمل والإبداع في مجالات تخصصاتهم.
ما تمر فيه الدول العربية من بؤس ودموية سببه التسمم الأيدولوجي للشباب في السابق من أجل مصالح سياسية صرفة، والتلاعب بالأفكار الدينية المتطرفة من أجل التحكم بالعقول، بينما غاب عنهم أن ذلك سلاح ذو حدين، وأن المجتمع عادة ما يرتد إلى التطرف بسبب عدوانية الأفكار التي يحملها في رأسه، وتناقضها مع أفكار العصر وخطط التنمية الشاملة.
وأخيراً، وفي ظل هذه الظاهرة التي أصبحت تهدد مكتسبات الأوطان، ما هو الحل الأسرع والأمضى لإخراج الشباب من تلك الحالة المتضادة والمتناقضة، بين سلوك ليبرالي عفوي، وعقل متطرف، تبرز تبعيته العمياء في تأييده للآراء المتشددة لأيدولوجيا التطرف!