كوثر الأربش
لطالما فكرت في الموت، في ماهيته، في قدرته أن يحول الأشياء إلى عدم، إلى رفوف النسيان، هكذا وفي الوقت الذي لا تتوقعه على الإطلاق قد يهجم عليك، الآن، غداً، بعد قليل، بعد عام، بعد عامين. لا تستطيع أن تعرف. لا تستطيع أن تعرف مهما حاولت. وهنا الإشكال، الإشكال يجعلك تتساءل عن الكيفية التي ستكون عليها أثناء رحيلك الأخير، كان هذا اللغز. اللغز الآسر بالنسبة لي، - للأسف لم أستطع الحصول على الإجابة، وللأسف لن أتمكن من ذلك مستقبلاً -، كل ما توصلت إليه هي تلك النتيجة البديهية والتقليدية التي يعرفها كل البشر، يعرفها عامل النظافة والفيلسوف بنفس الدرجة تقريبًا وهي: أننا وفي يومٍ ما سنموت. لكن الفرق الوحيد الذي توصلت إليه؛ أنّ للموت وجهاً وديعاً وطيباً آخر، وجهاً ليس مخيفاً ولا شريراً، وجهاً يشبه طفلاً بريئاً، عجوزاً تختبئ خلف تجاعيده صلوات وأدعية ووصايا ثمينة من كل الأنبياء، أذكر يوماً بأنّ الروائية التركية الشهيرة إليف شافاق، قد سبقتني للوصول إلى ذلك الوجه الآخر من الموت، كان ذلك أثناء الزلزال الذي أصاب تركيا في عام 1995 م حيث قالت: «في الساعة الثالثة فجراً كنت أجري في الشوارع، كنت أرى الأبنية تتساقط، كل شيء يتداعى وكأني أمام اليوم والمشهد الأخير من الحياة، كنت أسمع صرخات الأطفال والنساء تخرج من تحت الأنقاض، لساعات كنت أرى رجال الإطفاء يُخرجون الجثث الجماعية من تحت الأرض، إلاّ أنّ ما جعلني اندهش أكثر هو ذلك المشهد الذي أنفقت ساعات طوال وأنا أتأمله: «شيخ متشدد يجلس بجانبه على الرصيف أحد الفُسّاق ويربت كل واحدٌ منهم على الآخر بل ويتعانقون بشكل إنساني حميم ملتحفين بالبكاء»، وهم في السابق كانوا يتخاصمون في كل يوم، في كل يوم يتبادلون الشتائم واللعنات، وكنت أشعر بأنّ هذا الخصام لن ينتهي وسيدوم إلى الأبد، هذا هو الوجه الجميل والآخر من الموت أن تموت كل الخلافات، أن تسقط كل الكراهية، أن تستيقظ الإنسانية من جديد، أن يجعلك تشعر بالآخر، بالآخر الذي قد يكون أقصى أعدائك. بالآخر الذي قد يكون أقصى من تحب. الآخر الذي لربما أنفق أوقاته وطاقاته للنيل منك بأي طريقة، بأي وسيلة، وبأي تهمة. لكن ماذا عن الأشخاص الذين ليسوا أشخاصاً، الأشخاص الذين لا يتنازلون عن أحقادهم حتى في حضور الموت؟ لأنك فقط وفي يوم ما اختلفت معهم اختلافاً سوياً؟ لطالما حاولت أن أفهمهم، لطالما حاولت أن أجد لهم التفسيرات - ليس المررات -، ولطالما هم وفي كل مرة يصرّون على أن يتخلصوا من إنسانيتهم ويبقوا وحوشاً يقتلون أنفسهم قبل أن يقتلوا الآخرين.