د.عبد الرحمن الحبيب
«ستكون الصراعات المستقبلية أكثر سرعة [اندلاعاً]، أطول مدة، وتتم على أرض معركة تقنية أكثر بأضعاف من ذي قبل. سيزداد تأثيرها في وطننا الولايات المتحدة». هذا ما كتبه رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال مارتن ديمبسي في مقدمة وثيقة الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة.
ديمبسي كتب أيضاً: «خلال خدمتي العسكرية على مدى أربعين عاما فإن الأجواء الأمنية العالمية لهذه الأيام هي الأكثر تقلبا. فمنذ أن تم نشر الاستراتيجية العسكرية الوطنية الأخيرة عام 2011، ازداد الاضطراب العالمي بشكل كبير بينما بعض تفوقنا العسكري بدأ يتآكل». يقصد تآكل التفوق التكنولوجي كالإنذار المبكر ودقة الضربات والاختراقات الإلكترونية..
تبدأ الاستراتيجية الجديدة التي نشرها البنتاغون الأسبوع الماضي، بتناول البيئة الاستراتيجية موضحة أن هناك تعقيدات وتغييرات حادة بسبب العولمة وانتشار التكنولوجيا والتغيرات السكانية (زيادة ضخمة في أفريقيا والشرق الأوسط وانخفاض في أوربا وشمال آسيا). وإذا كانت أغلب الدول بقيادة أمريكا وحلفائها وشركائها تدعم الاستقرار الدولي فإن ثمة تحديات من بعض الدول أو المنظمات المتطرفة.
فبينما تسهم روسيا «في مجالات أمنية معينة، مثل مكافحة المخدرات والإرهاب، فهي أيضاً أظهرت مرارا أنها لا تحترم سيادة جيرانها واستعدادها لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها»؛ حسب نص الاستراتيجية الذي ذكر أن القوات المسلحة الروسية تقوض الأمن الإقليمي بصورة مباشرة وعبر وكلائها، وبأنها تنتهك العديد من الاتفاقات والمعاهدات الدولية.
بعدها تأتي إيران التي تمثل حسب الوثيقة «تحديات استراتيجية للمجتمع الدولي»، سواء في سعيها للحصول على سلاح نووي أو دعمها للإرهاب الذي سبب عدم الاستقرار في عدة دول كلبنان والعراق وسوريا واليمن.. في الوقت الذي جلبت التعاسة للآخرين فقد أنكرت حق الشعب الإيراني في الازدهار، حسب الوثيقة. الدولة الثالثة التي تقلق أمريكا هي كوريا الشمالية فهي «تهدد جيرانها بشكل مباشر، ولا سيما كوريا الجنوبية واليابان، ومع مرور الوقت ستهدد أمريكا أيضا.».. أما الصين فقد ذكرت الوثيقة أن إدارة اوباما تريد «دعم صعود الصين وتشجيعها لتصبح شريكا لتعزيز الأمن الدولي، لكن التصرفات الصينية تزيد من التوتر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ».
«لا أحد من هذه الدول يسعى للصراع العسكري المباشر مع الولايات المتحدة أو حلفائنا»، حسب نص الاستراتيجية، لكن «كلا منها يشكل قلقاً أمنياً خطيرا فيما يسعى المجتمع الدولي بشكل جماعي للتصدي لها عن طريق سياسات مشتركة.. والعمل المنسق». أما خارج نطاق الدولة فتشير الوثيقة إلى المنظمات المتطرفة (مثل القاعدة وداعش) التي تزعزع استقرار الأقاليم خاصة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تنتقل الوثيقة بعد ذلك إلى البيئة العسكرية موضحة أن أمريكا تعمل مع حلفائها وشركائها لردع العدو المحتمل من بين الدول الأخرى.. وهزيمته عند الضرورة». وإذا كان التفوق الأمريكي العسكري واضحاً فإنه يتعرض لتحديات تكنولوجية جديدة من الدول، مثلاً: الهجوم على نظم الاتصالات يمكن أن يحدث دون إنذار مما يؤثر في القدرة الأمريكية على الرد.
كما أن المنظمات المتطرفة تستغل التطورات التكنولوجية للدعاية للإيديولوجيات التدميرية، وجلب المقاتلين الأجانب. «اليوم، فإن احتمالات تورط أمريكا في الحرب بين بلدان ذات قوة عظمى منخفضة، ولكن» على العكس، المنظمات المتطرفة تشكل تهديداً إقليمياً مباشرا، حيث يتزاوج عنف الدولة مع عنف هذه المنظمات ليولد مزيدا من الصراعات، وليس فقط تنظيم داعش، ولكن قوى مثل المتمردين في أوكرانيا المدعومين من روسيا.
تنتقل الوثيقة إلى الاستراتيجية العسكرية المتكاملة مؤكدة تمسك أمريكا بحماية أمنها ومصالحها ومواصلة تفوقها ومحددة أولوياتها: أمن المواطنين والدولة، أمن النظام الاقتصادي العولمي، أمن الدول الحليفة، أمن الأمريكان خارج أمريكا.. ومتناولة التهديدات المباشرة وغير المباشرة، وطرق التعامل معها. وتؤكد الوثيقة على حماية أمن دول حلف الناتو..
وفي الوقت نفسه تقوم واشنطن بتشكيل «تحالفات عديدة» لمواجهة المنظمات العسكرية المتطرفة، لتحقيق الأهداف التالية: تشتيت خططها، وعملياتها، تدمير البنى الداعمة لها، القضاء على قياداتها، الحجر على تمويلها المالي، منع تدفق المقاتلين الأجانب لها، مواجهة التأثيرات الضارة، تحرير المناطق المحتلة.. وأخيراً، هزيمة تلك المنظمات. وهذا يتطلب حلفاء إقليميين قادرين (سياسياً ومالياً وعسكريا وتكنولوجيا). بعد ذلك تتناول الوثيقة طرق تقوية التحالفات الدولية ثم تحسين عملياتها، ثم تحديد مصادر التمويل..
ورغم أن هذه الاستراتيجية تذكرنا بـ»إستراتيجية الأمن الوطني» الأمريكية التي صدرت قبل أربعة أشهر وتم تناولها هنا، فإن الاستراتيجية هنا عسكرية بحتة تم تحديثها لتعكس الوضع الأمني العالمي الجديد. ويمكنني استخلاص أهم المحاور التي تناولتها هذه الاستراتيجية بأربعة.
الأول هو أنها حددت روسيا وإيران وكوريا الشمالية كتهديدات للسلام العالمي، بينما تشير للصين بلغة مختلفة. هنا يتضح الفصل والتأرجح بين الصين الحليف الاقتصادي والصين المنافس الإقليمي، كما يتضح أولوية القلق من روسيا بالنسبة للأمريكان.
الثاني هو تأكيدها على حدة التغيرات والتقلبات الأمنية العالمية بطريقة سريعة وصادمة يصعب توقعها، وذلك نتيجة ما جلبته العولمة وتقنياتها التكنولوجية خاصة تقنية الاتصالات وسهولة المواصلات والتنقلات بين الدول، إضافة للتغيرات الديموغرافية الضخمة. ذلك أدى إلى ثالثاً: وهو تآكل التفوق العسكري التكنولوجي الأمريكي حيث صارت التكنولوجيا المتقدمة في متناول الجميع. مما أدى إلى رابعاً: عدم رغبة (أو قدرة) أمريكا وحدها في المواجهات المباشرة، لذا ركزت الاستراتيجية على أهمية الشراكات والتحالفات الدولية للحفاظ على التوازن الأمني الهش حول العالم..
هذا المحور الرابع - وهو الذي يعني منطقتنا - يوضح أن أمريكا لن تدخل في مواجهات شاملة حاسمة مع القوى التي تزعزع الاستقرار الإقليمي كما فعلت سابقاً في أفغانستان والعراق عندما كان عنوان استراتيجيتها «الصدمة والرعب» إبان إدارة بوش أو ما أطلقت عليه آنذاك عقيدة «الحرب الوقائية». الآن ثمة عقيدة أخرى لم تسمها الإستراتيجية الأخيرة لكن كانت بين ثنايا سطورها وهي عقيدة «الصبر الاستراتيجي» التي تناولتها «إستراتيجية الأمن الوطني» الأمريكية، وتطرق له مسؤولون في البنتاغون مراراً خلال الأشهر الماضية.
هذا يعني أن أمريكا ستتدخل بآليات متنوعة وليس معركة عسكرية مباشرة كما تم الإشارة إليها، وسيقتصر عملها العسكري على ضربات جوية تكتيكية من أجل تحسين مواقع شركائها في المنطقة وليس لحسم المواجهة عسكرياً مما يتطلب وقتاً طويلاً وصبراً جميلا، حسب الرؤية الأمريكية..