د. حمزة السالم
استطاع هتلر بالنازية إخراج ألمانيا من ذل الاحتلال والدين والفقر والجهل، وقد جاءها مُستعبدة مُنهكة لا أمل ولا طموح لأهلها. فبنى العز في نفس قومه، فأعاد ما احتل من أراضيها، وبنى جيشها وأخضع أعداءها وأقام اقتصادها وأعاد لها شرفها.
وعلى الرغم من هزيمة ألمانيا إلا أنها ما كانت لتصل الى ما وصلت إليه، فهي تاج على رأس أوروبا اليوم، لولا ما غرسته النازية في قلوب الألمان من تطلع للتفوق والتميز، وما بنته النازية من مناهج تعليمية وبحثية متطورة. إلا أن النازية أيديولوجية عرقية عدائية بُنيت على احتقار غيرها من البشر، وهذا مفهوم كانت له صولة وجولة دهورا في قيام الإمبراطوريات، ولكن الزمان قد تعداه. فاستحقرت النازية الأمم فتكالبت عليها فأسقطتها.
وتورطت ألمانيا بالأيدلوجية النازية التي كانت مجدها بالأمس. فكيف كان علاجها لها؟ ألمانيا كانت تحت الاحتلال الأمريكي والروسي، فكان تجريم النازية والنازيين وتقبيح النازية والاستعارة منها وقبول تشويهها محليا وعالميا وبالإعلام والأفلام هو الخيار القاسي السريع لإصلاح الأيدلوجية، مع المحافظة في الجانب الغربي الألماني على مكتسبات الأيدلوجية النازية. وما زالت النازية لها دعاتها والمنادون بعودتها. ولهذا تخشى ألمانيا من عودة النازية وتحاربها، ولا تستهين بها، وتجرِّم وتسجن من يتشبه بها كالتحية العسكرية، وتمنع كتبها.
أما اليابان فلم تكن أيديولوجيتها العنيفة المتعالية وليدة عقد ولا قرن أو قرنين. بل قد وعت اليابان على نفسها وهي على هذه الأيدلوجية، فهي متأصلة في اليابانيين من قبل كتابة تاريخهم، فلا يعرفون حتى أصلها، فينسبونها للشمس. وهذه الأيدلوجية الغليظة العدائية هي التي حمت اليابان، فهي تغزو ولا تُغزى، وتحتل بلادا أجنبية وتعتدي على غيرها ولا يجرؤ أجنبي ولا غازٍ أو معتدٍ على التفكير في وطء أراضيها عبر التاريخ، قبل سقوطها تحت الاحتلال الأمريكي. فلم يكن لليابانيين أن يزوّروا ظلما وجحودا تاريخهم المجيد. ولا أن يلعنوا أبطالهم ويجحدوا أيَّاما لهم كثيرة، خطوا فيها بدمائهم أمجاد اليابان ومفاخره.
ولهذا اختارت اليابان مسح تاريخ الحرب اليابانية الأسود فقط، وأعانها العالم على ذلك بالتكتيم على جرائم الحرب اليابانية وأوعز إلى هوليوود بذلك فتجاهلتها. وذلك مقابل أن تتخلى اليابان تماماً عن الجانب المتوحش ضد الغير الذي كان في الأيدلوجية اليابانية، تعليميا أو ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا. وعلى إعادة صياغة أيدلوجيتهم، لتوافق العرف الحضاري الذي يتوافق مع زمن اليوم، ومن ذلك إلغاء قدسية الإمبراطور وسلطته التشريعية والتنفيذية وتبني النظام الديمقراطي الكامل. وما زال إلى اليوم قلة من اليابانيين من ينادي بأيدلوجية الأجداد، ولكن الحضارة اليابانية الحديثة قد تعدتهم بإِنسانيتها ورقيها اليوم، فأصبحوا نسيا منسيا. فكان نجاح اليابانيين في الإصلاح أعظم من إصلاح الألمان، باعتبار تأصل قدم تاريخ الأيدلوجية اليابانية وتعلقها بأديانهم.
وتفترق أمريكا عن ألمانيا واليابان بفارق كبير، وهو أنهم لم يكونوا تحت ضغط الاحتلال وإجبار الأجنبي لإصلاح أيدلوجية الرجل الأبيض التي كانت تنظر - حقيقة - للأسود كحيوان ناطق يمكن تسخيره بالبطش والحزم. وحركة مناوئة التمييز العنصري لا تمتد تاريخيا في أمريكا لأكثر من نصف قرن، استطاع الأمريكان خلالها ليس فقط منع الفصل والتمييز وتجريمه وعدّه من أكبر الجرائم، بل قاموا فنصّبوا عليهم سيداً أسود، وجعلوا سيدة أمريكا الأولى امرأة سوداء، في خطوة واسعة لإنهاء بقايا العنصرية من قلب الرجل الأبيض.
والأمريكان في تجربتهم للقضاء على العنصرية لم يتحملوا لوما قط. ولم ينكروا تاريخ ظلمهم واستعبادهم للسود. بل حرصوا على تعظيم قبح العمل ومخازي الفعل لا الفاعل، فحيدوا آباءهم وأجدادهم عن كل عار ولوم، باعتبار زمانهم.
فهذه تجارب ثلاث عظيمة في نفسها عظيمة في أممها عظيمة في نتائجها، فأين نقع نحن منها في محاولاتنا لحل مشكلة التطرف؟ والحل لا يكون إلا بنزع الجذور لا بقطف الثمار، فالقطف يُغلظ أصل الجذع ويعمق جذوره.
نحن أقرب للتجربة اليابانية من التجربة الألمانية والأمريكية. فنحن نتفق مع اليابانيين على أن أيدلوجيتنا هي عقيدتنا وتاريخنا وديننا فنحن منها وهي منا، فلا يحلمن أحد في الإساءة لها أو التخلي عنها.
ونحن نختلف عن اليابان كذلك، في أننا اليوم أحرار في القرار لنحزم أمرنا، لنقرر الطريقة التي نختارها في فسحة من الزمان كالأمريكان، لا ضيق منه كالألمان واليابانيين. ونختلف عنهم في أن أيديولوجيتنا هي الدين الحق الذي يناسب كل زمان ومكان، فهي تناسب زماننا، فمن يقول إنها لا تناسب زماننا فقد كذب على الله، ومن يقول انها مناسبة كما هي عليه الآن وهي شرع الله فقد أنكر الواقع وحرّف الشرع وأخفى منه وأظهر بهواه، كمعشر بني يهود، يخفون بعض الكتاب ويظهرون بعض. فالعيب إذاً والنقص ليس فيها لكنه فينا.
ونفرق عن اليابانيين في الإخفاء. فهم أخفوا بعض أيدلوجيتهم وتاريخها فلم يظهروها مطلقا، بينما أظهرنا نحن أيدلوجيتنا كما هي وتجاهلنا في إظهارنا فرق الزمن، ولم نتطرق قط لتبعيات الفرق ونتائجه، ثم بعد ذلك ننكرها في المحافل والمناظرات. والإنكار لما هو مشهور ومعلوم، هو إقرار من المُنكر بسوء العمل، فهو تحمل لوم ما كان ينبغي له أن يكون لوما، وقد كان هو الشرف والمجد في زمانه. لو أننا فقط بدل الإنكار تحملنا مسؤولية إلباس مجدنا وشرفنا، بلباس الزمن الحاضر.
اليوم نحن في فسحة من الزمن والحلول من كتاب الله وسنة خلفائه الراشدين في أيدينا، والطريقة قد أتت بها الأيام، ومسودة خطة التنفيذ جاهزة، فالحلول وإن بانت فإنه لا يحسن طريقة تنفيذها أهل التقليد ولا يقدرون عليها ولا يفهمون حلولها ولا يريدون حصوله. فهل من القوم من يسمع فيرى بنفسه صدق الدعوى من كذبها؟.