علم من الإعلام غيب في الثرى
فثوى رهين جنادل وتراب!!
يختلف وقع الحزن والأسى في نفوس أبناء الشعب السعودي عن غيرهم من سائر الشعوب والأمم الأخرى، حينما يفتقد علمًا بارزًا من أعلام وطنهم قد مليء حنكة ودراية بأبعاد الأمور السياسية، وصفاء القريحة التي هي من أسباب تجنب المسالك الوعرة التي قد تفضي إلى متاعب جمة، ومتاهات واسعة عندما تغيب الأناة والتثبت، فتغلبها العجلة والندامة على شيء يفوت دركه.، ولله در الشاعر:
وأحزم الناس من لو مات من ظمأ
لم يقرب الورد حتى يعرف الصدرا!!
كأمثال صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن فيصل بن عبدالعزيز آل سعود عميد الدبلوماسيين ورجل المهام العظام الذي فجع الشعب السعودي والأمتان العربية والإسلامية برحيله وغيابه عن الساحة العربية والدولية، حيث فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها مساء يوم الخميس 22-9-1436هـ بإحدى مصحات الولايات المتحدة الأمريكية بولاية (لوس انجلس) عن عمر ناهز الخامسة والسبعين عامًا بعد طول معاناة مع المرض بعيدًا عن وطنه مهوى رأسه وعن أسرته، فالآجال مخفية في ضمير الغيب لا يعلمها إلا فاطر السموات والأرض - جل ذكره وثناؤه- وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى في آخر سورة لقمان: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وأديت عليه صلاة الميت بالمسجد الحرام بمكة المكرمة، ثم ووري جثمانه الطاهر بمقابر العدل، ولقد استنفد عمره وشبابه خدمة لوطنه ومنفعة عامة للإنسانية عبر أربعة عقود من الزمن، وزيرًا للدولة وعضوًا بمجلس الوزراء ومستشارًا ومبعوثًا خاصًا لخادم الحرمين الشريفين على الشؤون الخاصة الخارجية، فهو يقفز من قمة إلى قمة أعلى حتى أقعده المرض، مأسوفًا على رحيله وغيابه الغياب الأبدي - تغمده المولى بواسع رحمته- ولقد ولد بمدينة الطائف عام 1358هـ، وترعرع بين أحضان والديه مع أخوته ولداته من أبناء الأسرة المالكة وغيرهم..، وتلقى تعليمه في المراحل الثلاث بمدرسة الطائف النموذجية الواقعة على مقربة من بساتين المثناة جنوبي حي (قروى)، كما اعتنى بتلاوة القرآن الكريم وحفظ ما تيسر من سوره التي استوطنت بركاتها صدره فأضاءته، وفي مقتبل عمره أخذ يحضر مجالس والده الملك فيصل -رحمه الله- ويسمع.
-3-
ما يدور فيها من أحاديث وقصص تأريخيه عن كفاح جده جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وانتصاراته المتتابعة في لم شمل أواسط وأطراف مملكته، مما بعث في نفسه روح الحماس والشجاعة ولذة الانتصارات، فلمح والده الملك فيصل مخايل الفطنة والذكاء، وهو ما يزال في ريعان شبابه، فسر والده بهذا التوجه المبكر، فزاد اهتمامه به، كما كان مهتمًا بإخوته من قبله، متوقعًا له شأنًا عظيمًا في قابل حياته المستقبلية - وفعلاً صدقت فراسته -رحمه الله- حيث بعثه إلى الخارج لينهل من العلوم الحديثة وإتقان ما يستطيع من اللغات الأجنبية بجانب اللغة - الأم- لغة القرآن الكريم، لأن الإلمام بالكثير من اللغات تثري حصيلة الإنسان المثقف الأديب، وتوسع آفاق المعرفة لديه، والدراية بأحوال العالم الخارجي وطباعهم ليسهل التخاطب والتفاهم معهم لمصلحة الطرفين.، وخصوصًا من يعمل في المجال التجاري والسياحي مثلاً، أو في السلك السياسي الدبلوماسي كصاحب السمو الملكي الأمير المحبوب سعود الذي يقال عنه إنه يلم بأكثر من سبع لغات، وقد اعتبر من معجزات زمانه ذكاء وفطنة، ولقد أجاد الشاعر صفي الدين الحلي بقوله:
بقدر لغات المرء يكثر نفعه
وتلك له عند الشدائد أعوان!!
فبادر إلى حفظ اللغات مسارعًا
فكل لسان في الحقيقة إِنسان!!
مما أهلته في كثير من المناسبات والمحافل الدولية لاويًا أعناق الجماهير نحوه إكبارًا واحترامًا، وقد حصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة (بربنستون) بولاية نيوجرسي الأمريكية عام 1964م بتفوق، ولقد أحدث غيابه فجوة واسعة في الميادين السياسية والدبلوماسية والمؤتمرات المهمة العربية والدولية، فصوته عالٍ مسموع ورأيه محل القبول:
والناس ألف منهم كواحد
وواحد كالألف أن أمر عنى!!
ولاعجب فقد تخرج من مدرسة والده الملك فيصل - رحمهما الله -، فحياته كلها جد وكفاح واعتدال في آرائه السديدة التي تهدف إلى نصرة الحق، والتآلف بين الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، مع تجنب الخلافات بين الأمم الأخرى كي يسود الأمن والاستقرار بينهم وكسب صداقتهم، وتبادل المصالح فيما بينهم ليتم التعايش.
-3-
في أمن واطمئنان، وهذا من أهدافه السامية ورجاحة عقله وبعد نظره، وفهمه للأمور كلها، - تغمده المولى بواسع رحمته- ولقد فطر على حب الخير ورعاية المساكين في كل مكان، ومما ينقل عنه قبيل وفاته وهو يكابد عقابيل المرض وصيته وقوله لمعالي وزير التعليم الدكتور عزام بن محمد الدخيل: (اهتم برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة) فهي وصية مخلص ومودع ولسان حاله يذكره بقول طرفه بن العبد:
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسطعت من معروفها فتزود
فكله نصح وعطف، ويحسن بي أن اختتم هذه الكلمة الوجيزة التأبينية بالنص الآتي الذي ينطبق تمامًا على سمو الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- (لما دفن الأحنف بن قيس قامت امرأة على قبره فقالت: نسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الخير دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، فوالله لقد كنت في المحافل شريفًا، وعلى الأرامل عطوفًا، ولقد كنت في الحي مسودًا، وإلى الخليفة موفدًا، ولقد كانوا لقولك مستمعين ولرأيك متبعين، فقال الناس ما سمعنا كلام امرأة أبلغ ولا أصدق معنى منها..).
ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
سلام على القبر الذي ضم أعظما
تحوم المعالي حولها وتسلم!!
ولئن غاب عن الوجود (أبو محمد) فإن ذكره يدوم على تعاقب المولين، ولسان حال الشعب السعودي يتقدم إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ونائبيه الكريمين بأحر التعازي في وفاة فقيد الأمتين العربية والإسلامية، رحم الله الفقيد وألهم ذويه وأخوته وأبناءه وكريماته وزوجته وأحفاده الصبر والسلوان {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} البقرة 156}.
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف - حريملاء