الشاعر الراحل أحمد الصافي النجفي ">
الحديث عن عملاق من عمالقة الشعر والأدب في وطننا العربي الكبير، الشاعر الفحل المرحوم أحمد الصافي النجفي، الذي تصفق له الجماهير بقلوبها قبل أكفها، ما ذكره عدد من الكتّاب عن سيرة هذا الشاعر العملاق، الذي أُطلق عليه شاعر هذا الجيل، ومعلم هذا الجيل، وفيلسوف هذا الجيل..
إنه يستحق أكثر من تحية واحترام، وأكثر من دراسة وتدريس لشعره.. يستحق أن نأخذ من سيرة حياته الشيء الكثير، من العِبر، ومن الدروس، ومن الحِكم، ومن السلوك، ومن الصمود، ومن القدرة على مواجهة التحديات.. يستحق أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى شعر الصافي وأدب الصافي.. ومَن الصافي؟
وقد تحدث الكثير عنه. وقال أحد أصدقاء الصافي المقربين إليه: وُلد الشاعر أحمد الصافي النجفي في مدينة النجف الأشراف، وكان ذميم الوجه، عليل الجسم؛ فقد عاش - بإذن الله - فتى شاباً منطوياً على نفسه، لا يألفه الناس، ولا يعاشرونه. طلب العلم الشرعي، وعُين أميناً للإفتاء، ثم هجر بلده، وترك وظيفته، وأخذ يتجول عبر الوطن العربي سائحاً جوالاً.. زار مصر وسوريا ولبنان.. وغير ذلك. كان بائساً فقيراً عفيفاً متقشفاً، لا يلوي على شيء حتى تُوفي في بغداد متأثراً بجراحه التي أُصيب بها بسبب طلقة نارية طائشة في لبنان.
فقد تحدث الأستاذ الكريم عبد العزيز الربيعي عن الشاعر العملاق أحمد الصافي النجفي في سطور قائلاً: ينتسب الشاعر العملاق أحمد الصافي النجفي إلى أسرة آل الصافي المنحدرة من عائلة علوية حجازية، قدمت من الحجاز إلى البصرة بالعراق، واستقر بها المقام بمدينة النجف الأشراف. وتعد هذه الأسرة الحسيبة النسيبة من أعرق الأسر علماً ومعرفة وديناً.. فوالد الشاعر ورث العلم والمعرفة عن آبائه وأجداده، حتى الجد السابع عشر السيد عبد العزيز الذي قطن مدينة النجف في ذلك الوقت، وأسس أسرة الصافي. ويعد عبد العزيز الجد السابع عشر لشاعرناً العملاق من كبار رجال الدين في عصره، إلى جانب معرفته بعلم الأنساب، لدرجة أن بعض معاصريه يدعونه بـ(عبدالعزيز النسابة). وقد أشار الأستاذ محمد حرز الدين في كتابه (معارف الرجال) إلى قيمة وعظمة السيد عبد العزيز، بل إن المؤرخ المعروف الأستاذ محمد السماوي قال عنه في قصيدته الموسومة بعنوان (الشرف في وشي النجف):
منهم بنو عبد العزيز الصيد
في كل فن منهم عميد
أما جد الشاعر لأمة فهو الأستاذ محمد حسين الكاظمي، الذي يعتبر من أكبر علماء عصره. ينتمي جده إلى أسرة المعتوق اللبنانية والمقيمة في بلدة (الزرارية)، وقد حضر إلى مدينة النجف الأشراف بحثاً عن المعرفة والعلم. فقد أنجبت مدينة النجف عدداً من المفكرين والعلماء والشعراء والأدباء؛ فهي التي أنجبت شاعرنا العملاق أحمد الصافي النجفي عام (1314هـ، الموافق 1894م). وإن مدينة النجف في عصر شاعرنا العملاق تزخر بشتى العلوم، وبروائع العلم والأدب. وقد نشأ شاعرنا وترعرع في المنتديات الأدبية لفترة طويلة، اغترف من أدبها وعلمها ودينها حتى أصبح الكثير من أهالي مدينة النجف يعتقدون أنه سوف يحل مكان جده لأمة الأستاذ محمد حسين الكاظمي. وبدأ حياته الدراسية على يد عدد من شيوخ العلم والمعرفة، وبعد مضي ما يقارب ثلاث سنوات انتقل إلى إحدى المدارس التقليدية (الكتاتيب)، وحفظ القرآن الكريم حفظاً تاماً وهو في سن صغيرة، وهذا يدل دلالة واضحة على شروق عبقرية شاعرنا. وإلى جانب حفظ كتاب الله أتقن الكتابة لدرجة أن خطه في ذلك الحين لا يماثله خط في الجودة والبهاء.
ودرس المنطق والنحو والصرف والمعاني والبيان إلى جانب العلوم الدينية والصوفية والفلسفية القديمة التي تملأ رفوف مكتبات أسرته وعشيرته.
وقبل الحرب العالمية الثانية أُصيب بضعف عصبي شديد؛ ما جعل الأطباء يشيرون على أسرته بأن يمتنع عن دروسه، ويكتفي بالمطالعة فقط؛ وذلك بقصد التسلية؛ فاتجه منذ ذلك الحين إلى قراءة الأدب القديم والحديث، وأقبل على مطالعة الصحف والمجلات والكتب العصرية بهمة ونهم، ورأى عالماً جديداً، وآفاقاً واسعة تتجلى أمام عينيه، فقد ناضل المستعمر البريطاني الذي جثم على أرض الرافدين لفترة من الزمن بقدر إمكانياته المحدودة مع المجاهدين العراقيين؛ ما جعل قوى المستعمر يصدون المواجهة الجماهيرية بقوة النار والسلاح.
وقد رأى شاعرنا الكبير أن مبارحة العراق أمر لا بد منه؛ فدخل الحدود الإيرانية متسللاً. ولم يضع وقته عبثاً؛ فراح يتعلم اللغة الفارسية من الأفواه فماً، يجتمع معهم مع معاشرة أدباء وعلماء وشعراء الفرس. وبعد حين استطاع أن يجيد اللغة الفارسية إجادة تامة؛ الأمر الذي جعله يتقدم لفحص أعلنته وزارة المعارف الإيرانية؛ لكي يصبح معلماً في مدارس إيران. وبالفعل اجتاز شاعرنا هذا الفحص بتفوق على أصحاب اللغة، وانخرط في سلك التعليم الإيراني؛ فأصبح يدرس الآداب العربية في ثلاث مدارس ثانوية. وبعد ذلك أصبح كاتباً في الصحف الإيرانية الكبيرة لفترة من الوقت. ولم يقف نشاطه الذهني عند ذلك الحد، بل انتُخب عضواً عاماً في النادي الأدبي بطهران، إلى جانب تعيينه عضواً عاملاً في لجنة الترجمة والتأليف في عهد وزير المعارف الإيراني السيد محمد تدين. وخلال وجوده بإيران ترجم كتاب (علم النفس) لعلي الجازم ومصطفى أمين إلى اللغة الفارسية، كما ترجم (رباعيات الخيام) من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية الفصحى. وبقي بإيران نحو ثماني سنوات، أعطى خلالها شعب إيران من فنه وفكره وروحه وأدبه الشيء الكثير والكثير، إلى جانب أن دولة إيران الإسلامية احتضنته بأحضانها، وأعطته من سحرها وبهائها وفنها الشيء الكثير والكثير. وشعر بعد هذه السنوات الطويلة خارج مسقط رأسه أنه بحاجة إلى أن يعود إلى بلاد الرافدين بعد أن استقل العراق، وخيمت على ساحته روح الاستقلال والأمن والطمأنينة.. إلا أن النكبات والثورات تعاقبت على العراق وشعب العراق في غيبته، كان أهمها وأبرزها ثورة رشيد عالي الكيلاني، التي هزت انفعالات وأحاسيس ومشاعر شاعرنا الكبير؛ وأخذ يقود المظاهرات الطلابية في بيروت عندما كان هناك، وأخذ يوجه ويصقل ويؤجج همم الطلاب والمواطنين في لبنان.. يوجههم بفكره، ويصقلهم بحكمته وتجربته، ويؤجج مشاعرهم بشعره ونثره.
كان شاعرنا العملاق يؤمن بوحدة الوطن العربي، وبوحدة النضال العربي، وبوحدة المصير العربي. وبالرغم من السنوات التي قضاها خارج وطنه الحبيب إلا أنه لم يقطع صلته به ساعة واحدة.
ويكفي للقارئ الكريم أن يعرف شعور شاعرنا الكبير نحو بلاده من هذه الأبيات:
لقد تغربت حتى
نسيت كل قريب
فان رجعت لأهلي
رجعت مثل الغريب
سلكت كل الدروب
ألفت كل الكروب
فغربة الدار داري
والأهل صحب الدروب
لقد أدمى تغربه فؤاده، وعذب بعده عن الديار قلبه، حتى قال هذه الأبيات الجميلة:
جرح التغرب في فؤادي بالغ
ألقي عليه ببلسم النسيان
فتفجر النسيان عنه وأصبحت
للجرح تهمل بالدماء عينان
وعندما يذكر ويتذكر أرض العراق وأهل العراق فإنما يتذكر ليالي صباه وأيام شبابه ومجالس خلانه وعشيرته:
بقلبي قد أطلت ذكريات
تفتش فيه عن ماضي شبابي
بقايا من حبيب أو محب
وأشباح لأيام التصابي
وطيف تواصل وخيال هجر
ورسم تدلل ورؤى عتاب
كشمس قد توارت في مغيب
وبرق قد تلاشى في ضباب
وحبه لأهل العراق وتعلقه بأرض بلاده وبعده عن وادي دجلة والفرات تثير في نفسه الآلام والأحزان لأسباب كثيرة، منها أنه لم يجد - مع الأسف - من يفهمه جيداً. وقد أتى بهذه الأبيات الشعرية:
روحي بأرض العراق عالقة
والعقل سام عن أمدن المدن
أحار بين التفتيش عن وطن
يفهمني أو محبة الوطن!
فالصافي الشاعر العملاق الحساس الذي لا ينسى رسوم دياره ظل طول عمره وفياً لبلاده وترابه؛ فيتذكر نخيل العراق وتمره، ويعتز به تمام الاعتزاز، ويرسل الشعر شعراً حزيناً، شعراً يقطر أسى وحزناً، شعراً مراً مريراً.. فهو يقول:
يا نخل (صيداء) لي هيجت أشجانا
ذكرت من وطني أهلاً وجيرانا
ما لاح طلعك لي إلا وذكرني
ربيع ريفي بطلع النخل مزدانا
كم ذكرتني بساتين النخيل هنا
من نخل ريفي جنات وبستانا
وكم دعتني وأغرتني لأدخلها
حتى ألاقي بها أهلاً وخلانا
يا نخل (صيداء) قد أشعلت نيرانا
بقلب ناء بعيد الدار ولهانا
وقد تمنى الشاعر من كل قلبه أن يعود إلى أرض وطنه؛ ليتلمس ذكريات صباه عن قرب، ويشاهد مطارح سعادته، ويعيش فرحة ضاعت في متاهات الخيال.
لقد سار في دروب شاقة وشائكة؛ لقي خلالها الآلام والمتاعب والمصائب والمصاعب والأحزان، لكنه كان على درجة كبيرة وعظيمة من التحصيل والصبر من أجل مبدئه ومواجهة المشاكل وحلها بأساليب مرنة وجادة؛ الأمر الذي جعله لا يستسلم لأية عقبة حادة تواجهه رغم حساسية شاعرنا الكبير.
لقد عاش شاعرنا معظم حياته بلا شريكة تقف معه، تحنو عليه، تضمه، تحتضنه، تواسيه وتنجب له ولداً على الأقل. والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن القدر أبعده حتى عن أقاربه وعن أهله وعشيرته وسكناه، ويقف أمامه حائلاً دون عودته إلى بلاده العراق بسبب ما أصابه في جسمه من أمراض وأحزان، ومن خلال واقعه المرير الذي يلمسه ويعيشه.. فلنستمع ماذا يقول في هذه الأبيات:
أستقبل الستين مستوحشاً
لا أهل، لا مال ولا ولد
لا مسكن آوي له ثابتاً
لا سكن لا هند لا وعد
أحفاد أصحابي لهم ولد
وها أنا من عمري جسد
مشرد ليست له غاية
في مهمة ليس له حد
لقد عاش حياة مثالية طول حياته شريفاً ونزيهاً، لا يقول إلا ما يعتقده ويؤمن به؛ لذا شرد وتشرد، وعذب وتعذب؛ الأمر الذي يوجب على كل فرد منا أن يواجه سلوك هذا الشاعر العملاق بإكبار وتقدير وإجلال.
(من آراء الشعراء عن شاعرنا الكبير)..
الشاعر الكبير الزهاوي:
قال عن أحمد الصافي النجفي إنه شاعر كبير خليق بالإكبار؛ فهو كوكب وقاد.. قد طلع في سماء الأدب بازغاً، فملأ العيون نوراً والقلوب سروراً.
وإنك لتجد في قصيدته العصماء شعوراً تنزه عن التقليد والمبالغة، ووصفاً ساحراً، وتجد سبكاً رصيناً، وأسلوباً فاتناً، وألفاظاً سهلة، ومعاني مبتكرة.. وسيكون لشاعرنا النجفي هذا شأن في العراق وغير العراق وفي البلاد العربية، ويذيع صيته كما يذيع ضوء الصباح المسفر.
* وقال عنه الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي:
الصافي شاعر تجردت نفسه من المطامع، وسمت عن محيطها؛ فهي لا تبالي ما اصطلح عليه الناس من عادات وتقاليد، بل هي تطل عليهم، وتأخذ في توبيخهم؛ لأنهم لا يتجردون تجردها، ولا يتمردون تمردها...
* وقال عنه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد:
(إنه أشعر شعراء العربية).
* وقال عنه الشاعر إلياس أبي شبكة:
أحمد الصافي النجفي، هذا الاسم سيعيش طويلاً، ويخيل إلي أني أرى خيال الأسطورة على أحرفه...
* وقال عنه الأستاذ رئيف الخوري:
لقد تقمصت في الشاعر أرواح شعراء كثيرين، فيه روح المتنبي, وفيه روح المعري, وفيه روح ابن الرومي، وفيه روح أبو نواس، وفيه روح أبي العتاهية، وفيه روح أبي الشمقمق...
* وقال عنه الشاعر الكبير رشيد سليم الخوري:
إنك عندي أبرع من نحت التماثيل الشعرية الزاخرة بالحياة من صخرة الواقع الملموس، في حين يعقد أدعياء الشعر من (لا شيئهم) يهوون بها على قلوب الناس وأرواحهم...
* وقال عنه الشاعر الكبير بدر شاكر السياب:
الصافي عالم قائم بذاته، متسع الأفق بشكل لا مثيل له عند أي شاعر عربي بمفرده، لم يترك موضوعاً إلا وطرقه، ولا عاطفة من عواطف النفس إلا وصورها، فهو شاعر فلسفة وحكمة وهجاء وسخرية وغزل ووصف وطبيعة.. وهو شاعر ذاتي إلى أبعد حدود الذاتية، وموضوعي إلى أبعد حدود الموضوعية، إنه ظاهرة ضخمة في الشعر...
فالشاعر بعد هذا وذاك يشترك مع سواه في القوة والضعف والعمق والسطحية وقرب التناول وبُعده والمثالب والمحاسن.. فهكذا الشعراء.
- عبد العزيز صالح الصالح