صُدِم العالم أجمع بوفاة عميد الدبلوماسية، ومهندس السياسية الخارجية السعودية صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، عليه شآبيب الرحمة والغفران، حيث وافته المنية في الثاني والعشرين من هذا الشهر المبارك، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه خير الجزاء على ما يذله من جهود وتضحيات في خدمة دينه ووطنه ومليكه، على مدى أربعين عاما.
لقد رَحَل (سعود الفيصل) بعد أن أمضى أكثر من أربعة عقود قاد فيها سياسة وطننا الخارجية، وحلَّق بها بعيدا، رغم الرياح والأمواج والأحداث والتقلبات السياسية التي مرت بها المنطقة والعَالَم أجمع.
غَادر (الفيصل) دنيانا بعد أن تفانى في رفع راية القضايا العربية والإسلامية، ودافع عنها بصرامة وحكمة وحِنكة في مختلف المحافل والمنابر الدولية، وهو الذي امتزج بأحوال أمته حتى شبَّه حالته الصحية في أيامه الأخيرة بحالها!
أجل.. تُوفي (سعود الفيصل)، ولا عجب أن يبكيه الوطن الذي قضى عمره في خدمته، وكان لسانه الناطق بصوته، وأن تنعيه مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي بالدموع والعبارات الصادقة التي لم تنبض بها فقط قلوب السعوديين الذين يحبونه، ويقدرون جهوده، بل شاركهم في ذلك إخوانهم العرب والمسلمون والأصدقاء المنصفون!
نعم.. لقد انتقل (الفيصل) الرَّجل الصعب في التاريخ السياسي إلى جوار ربه، فتصدَّر الخبر وكالات الأنباء العالمية وقنواتها الإخبارية؛ فالسياسة الدولية فَقَدت أسدًا من أسودها الذي قال عنه ميخائيل جورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفيتي: لوكان عندي رَجُل مثل (سعود الفيصل) ما تفكّك الاتحاد السوفيتي!
لقد رحل أمير السياسة الخارجية ومسطِّر حروفها ومتقن حل معادلاتها الصعبة، لكنه وإن رحل بجسده وروحه سيبقى من خلال تلك الثروة الهائلة من فنون إدارة الشؤون الخارجية مما يستوجب أن يبقى، وسيبقى أثره وفنون إدارته للعلاقات مع الدول حولنا ومع الأحداث المستدامة والمتجددة، ستبقى تُدرَّس عبر مدارسنا وجامعاتنا، وستبقى نبراساً يستضيء بها من يخلفه في هذا المكان، وستبقى ما بقيتْ هذه البلاد؛ لأنَّ منبعها ومؤسس قواعدها هو جدُّه الملك المؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ثم من بعده والده فيصل الحنكة والفطنة والدهاء.
إن مما يلفت الانتباه في هذا الرجل الاستثنائي أنه على الرغم من بقائه وزيرا للخارجية على مدى أربعين عامًا، فإنه عند ترجله من هذا المنصب أكد في برقية جوابية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله- بأنه سيبقى الخادم الأمين، وبأنه اجتهد طوال تلك الفترة وأصاب وأخطأ، كما أنه لم ينسَ في برقيته الأخيرة شكر زملائه في العمل، بل شكر كل الشعب السعودي على ما عبَّر عنه من مشاعر حب وودٍّ وتقدير فياض وصفها بأنها أشبه ما تكون بوسامٍ تمنى أن يكون جديراً به.
لقد كان (سعود الفيصل) رجل المواقف والمواجهة، استطاع بحكمته وحنكته التي ورثها عن الفيصل العظيم أن يُطفئ كثيراً من جذوات الفتنة الملتهبة، ويبرئ ساحة المملكة، كلُّ ذلك وسط إعجاب العالم، وهو يمتلك خلفيةً ثقافية، ويجيد الرسم بالكلمات والحروف، خاصة حين يظهر على الشاشات الغربية، حيث كان محاوراً من الطراز الأول، ولا عجب، فهو مكوك الخارجية، إذ كان دائم الترحال، مما أثَّر على صحته، لكنه لم يُبالِ في سبيل الوطن، فشهدت له الصحافة العالمية وكبار المحللين السياسيين بأنه كان سيد الكلمة.
لقد مرَّت بكثير من السياسيين ممن تقلدوا منصب وزير خارجية أمور لا تزيد عن حدث أو حدثين جعلهم في عين العاصفة, ولكن كان الأمير سعود يختلف عن الكل، إذ عاصر أحداثاً عصفت بالمنطقة والعالم، وبعضها أمور خطيرة كادت تؤدي إلى حروب عالمية، فمنذ أن تولى منصب وزارة الخارجية كان وسط كل حدثٍ عالمي، وكانت الصحافة العالمية تتسابق لسماع ما يقول؛ لأنه كان يتحدث بشفافية وبثقة، قلما توجد لدى أي وزير خارجية، كانت هناك أحداث الحرب اللبنانية، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، والنزاعات الفلسطينية الإسرائيلية، وحرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، وغزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وأحداث 11 سبتمبر، وما نتج عنها من غزو لأفغانستان، واحتلال للعراق، وتغير خريطة المصالح السياسية في العالم، وغيرها من الأحداث الجسام، حتى وصلنا إلى ما سمي بالربيع العربي.
جبر الله مصابنا ومصاب الوطن بهذا الفقد، ورحم الله فقيد الوطن والسياسة العربية والإسلامية، والعزاء لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وولي ولي عهده- حفظهم الله-، ولإخوان الفقيد وأبنائه وبناته، وأحسن الله عزاءنا وعزاء الوطن، وألهمنا الصبر والسلوان.
د. عمر بن عبدالعزيز بن صالح المحمود - عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية