د. خالد محمد باطرفي
يصر كثير من المراقبين والمعلقين على غموض الموقف السعودي تجاه الاتفاق النووي مع إيران، وعندما تناقشهم في الأمر يشيرون إلى التصريحات التي تبدو متناقضة أو غائمة حول هذا الموقف.
وفي تصوري أن سر ذلك يكمن في الخلط بين التصريحات الرسمية وتلك التي تصدر عن معلقين وكتاب لا يمثلون
إلا أنفسهم. كما أن هناك التباساً حول موقف المملكة من الاتفاقية وتحفظها على تداعياتها.
وفي ردي عليهم أوضح أن الموقف الرسمي شديد الوضوح ومتسق مع ما سبقه من مواقف. فالسعودية اتخذت من البداية جانب الحذر والتحفظ نحو اتفاقية لم تكن على علم بتفاصيلها ومفاوضات لم تكن عليمة بمجرياتها، لكنها رحبت دوما بمبدأ مراقبة أنشطة إيران النووية ووضع آلية تضمن سلامة المنشآت والتقنيات المستخدمة، خصوصا تلك التي تقع على ضفاف الخليج، وضمان عدم قدرة إيران على إنتاج أسلحة دمار شامل.
وهذا حق طبيعي للجيران، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار عدوانية السياسة الإيرانية، ومغامراتها العسكرية في المنطقة، ودعمها للإرهاب. كما أن التقنية المستخدمة في المفاعلات، حتى لو ضمنا سلميتها فهي أقل أمانا من تلك التي تسببت في انفجار مفاعل شارنوبيل في أوكرانيا، عام 1986م، وتقع بعض هذه المفاعلات في مناطق مهددة بالزلازل، وبالتالي فأي خطأ تقني ينتج عنه تسرب سيهدد منطقة الخليج كلها، وما بعدها.
وهكذا، فعندما تم الاتفاق ونشرت بنوده واستمعت القيادة السعودية إلى تطمينات وتأكيدات وشروحات الدول التي شاركت في الوصول إليه، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، أعلنت المملكة ترحيبها بالاتفاق، مع طلب المزيد من التوضيحات فيما يتعلق بآلية التنفيذ، والتأكيد على أهمية أن يبقى سلاح العقوبات الاقتصادية قائما حتى نضمن دقة الالتزام وعدم المراوغة والتدليس من الجانب الإيراني، كما كان يحدث طوال سني المفاوضات.
وفي الجانب الآخر، أبدى كثير من المحللين السعوديين وبعض المسئولين السابقين والحاليين تخوفهم من إطلاق يد إيران في المنطقة بعد هذه الاتفاقية. فسواء أكانت هناك بنود سرية تمنحهم مزايا أو وعود على حساب الجيران، أو لم تكن، فمجرد غياب أي بنود تلزم إيران بتصحيح منهجها التدميري في المنطقة، وإيقاف تدخلاتها في شئون الغير، ودعمها للمليشيات الإرهابية والانقلابية، وإثارتها للفتن الطائفية، يعني استمرار هذا النهج تصاعديا. فرفع العقوبات الاقتصادية، وتحرير الحسابات البنكية المجمدة، يعني أن ما لا يقل عن150 مليار دولار في أمريكا وحدها، إضافة إلى ما ستدخله المصالح التجارية المترتبة على رفع العقوبات، ستكون في يد لا تبخل في دعم عملائها ومليشياتها وأحزابها الطائفية في المنطقة.
التصريحات السعودية الرسمية، وأبرزها ما صرح به وزير الخارجية، الأستاذ عادل الجبير، حذرت إيران من اللعب بالنار، وطالبت المجتمع الدولي بمراقبة التصرفات غير المسئولة للحكومة الإيرانية وأذرعها الأجنبية ممثلة في الحرس الثوري وفيلق القدس والمخابرات والأحزاب والجماعات والمليشيات المنتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ويبقى الأمل أن تعود إيران إلى رشدها، وأن تستثمر هذه الأموال، وهذه العودة إلى العالم المتحضر في إعادة تعمير البلد التي لا تزال قائمة على ذات البنية التحتية التي أنشأتها حكومة الشاه، وتركز جهودها في مشاريع التنمية والتطوير وإعادة بناء الجسور التجارية والثقافية والعلمية والأمنية مع محيطها، ولتحقيق طموحات شعبها الذي يعاني نصفه من الفقر وسوء الخدمات. وفي هذه الحال ستحقق ما وعدته لشعبها الذي خرج في تظاهرات مؤيدة للحكم الجديد، تنادي (لا غزة ولا لبنان.. روحي فدى إيران). كما ستجد أيدي جيرانها ممدودة وقلوبهم مفتوحة لها، لتسهم معهم في بناء إقليم متماسك، متكاتف، نام، مستنير. ولتنضم مع القيادات الإسلامية في بناء تحالف إسلامي يبني قلاع التنمية ولا يهدمها، ويتواصل مع العالم بروح التسامح والتعاون والبناء.
الشعب الإيراني العظيم أثبت في انتخابات الرئاسة الأخيرة أنه سئم من الحروب والتدخلات في شئون الآخرين، وفتح جبهات العداوة في كل اتجاه، وأنه يتوق إلى عصر جديد يستعيد فيه مفهوم الجوار البناء، ويركز فيه على مشروع نهضة وتجديد للحضارة الفارسية. كما يظهر أن قطاعا لا يستهان به من الحكومة الجديدة يشاركه هذا الأمل ويسعى لتحقيق هذا الحلم. ولكن هناك فئات حاكمة، مسيطرة، مؤثرة منذ انطلاقة الثورة الخمينية لا يعنيها إلا الماضي، ولا تستهديها إلا العقائد، ولا تستهويها إلا الطموحات الإمبراطورية، ولا يقودها إلا حلم استعادة الدولة الساسانية التي كانت تمتد حتى حدود الصين، وجنوب روسيا، وأبواب أوروبا، وتشمل الهلال الخصيب حتى البحر الأبيض المتوسط، والخليج العربي بضفتيه، واليمن ومصر. ورغم أنهم يستغلون الدين ويرفعون رايات التشيع لتحقيق هذه الغاية، إلا أن الإمبراطورية التي يحلمون باستعادتها نشأت قبل الإسلام، وسقطت على يد المسلمين.
المشكلة أن السيطرة اليوم هي للولي الفقيه ورجاله في مجلس النواب ومجلس تشخيص النظام والحرس الثوري والاستخبارات، وهؤلاء ليس من مصلحتهم نجاح مشروع الرئيس «الإصلاحي» وتنفيذه لوعوده الانتخابية بالتركيز على الداخل وبناء الجسور مع الخارج، وهم من يتبنون حلم الإمبراطورية ويديرون المعارك الخارجية والمشاريع التوسعية. والأمل أن تأتي الانتخابات التشريعية القادمة بمن يشارك الحكومة برنامجها ومشروعها «الإصلاحي» وأن يدفعوا الرئيس المتردد إلى القيام بالمطلوب منه تجاه تصحيح المسار التخريبي للسياسات الإيرانية الخارجية.