نجيب الخنيزي
بدأت روسيا تتحرك ببطء من الدفاع البسيط ومحاولة الاحتواء الأميركي دفاعاً عن مصالحها الحيوية، إلى التصدي والهجوم لضمان مواقف جيوسياسية أكثر حيوية، مستخدمة كرافعة لها إمكاناتها الجيو - سياسية وقدرتها العسكرية والاقتصادية الضخمة. تحتل روسيا المرتبة (حتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق) الأولى في العالم، من حيث المساحة التي تبلغ أكثر من 17 مليون كيلو متر مربع. كما تحتل المرتبة التاسعة من حيث السكان (142 مليون نسمة ). وبلغ حجم احتياطات روسيا من العملات الصعبة والذهب نحو 598 مليار دولار قبل أوغسطس 2008 غير أنه انخفض إثر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية إلى 472 مليار دولار.
وهي بذلك تحتل المركز العالمي الرابع بعد الصين واليابان والسعودية، ولنقارن ذلك بالدَّين العام الأمريكي الذي فاق 20 تريليون دولار، بلغ نصيب الجهات الخارجية من هذا الدين 9.7 ترليونات دولار أمريكي أما الباقي ومقداره 4.6 ترليونات دولار فهو لأطراف داخل الولايات المتحدة كحكومات الولايات أو الحكومة الاتحادية. لا تعني هذه الأرقام أن الاقتصاد الروسي لا يعاني من أزمة بنيوية ومن مشكلات جدية، مثل التضخم، والبطالة ، واتساع الفوارق الطبقية. كما توضح المعطيات أنه غير محصن من إفرازات وتداعيات الأزمة المالية -الاقتصادية العالمية والتي هي إفرازات ملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي بوجه عام والذي تنتهجه روسيا اليوم.
وليام إينغدال وهو محلل أمريكي بارز للتطورات الاقتصادية والسياسية في العالم، وله كتب عديدة من ضمنها كتاب «السيطرة كاملة الطيف: الديمقراطية الشمولية في النظام العالمي الجديد»، كتب في معرض تحليله للتوجهات الروسية، أن روسيا الجديدة تستمد تأثيرها عبر مجموعة من الخطوات الاستراتيجية، المرتبطة بمواردها الاحتياطية الجيوسياسية في مجال الطاقة، وخصوصاً استخراج النفط والغاز الطبيعي. وهي تقوم بذلك ببراعة ولباقة، مسخرة لصالحها الغباء الاستراتيجي، وأخطاء واشنطن السياسية الشنيعة. كما تفهم روسيا أنّها إن لم تتصرف بشكل حاسم وبفعالية، فستغدو قريباً محاصرة ومهزومة من قبل منافستها الولايات المتحدة الأميركية، والتي لا تمتلك في مواجهتها الكثير من وسائل الدفاع. والمعركة، التي تخاض بصمت، هي، اليوم، أكثر معارك تقرير الوجود جدية في السياسة العالمية. حيث شعرت روسيا وعلى نحو جدي بأنها مستهدفة بالتطويق والحصار الأميركي كمرحلة أولى تمهيداً لعزلها وتطويقها، بل ولتفكيكها إلى دويلات في مرحلة لاحقة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يعبر التنافس والصراع الأميركي - الروسي الحالي عن يقظة الوطنية الروسية التي عانت الإذلال والمهانة في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسن، وبالتالي عودة ما، ولو بشكل آخر إلى أيام الحرب الباردة، حيث الصراع والتنافس على المصالح والنفوذ، حتى في ظل اختفاء العنوان «الأيديولوجي» السابق لذلك الصراع، وهل يفتح هذا التنافس الأميركي - الروسي، والأميركي - الصيني، والأميركي - الأوربي لعالم جديد متعدد الأقطاب بعيداً عن الهيمنة والأحادية القطبية التي تتفرد بها الولايات المتحدة في العالم حتى الآن.
المفصل الثاني في بوادر انهيار الهيمنة الإلحادية الأمريكية يتمثل في تشكيل مجموعة بريكس التي عقدت قمتها السابعة، في شهر يوليو المنصرم من العام الحالي في مدينة أوفا الروسية، وكانت قد تأسست رسمياً عام 2009 وكذلك مجموعة منظمة شنغهاي للتعاون (تأسست في عام 1996). والتي عقدت قمتها الأخيرة في نفس الفترة.
الجدير بالذكر أن مجموعة بريكس مكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، (كلمة بريكس هي الحروف الأولى من أسماء تلك الدول باللغة اللاتينية) وتشكل هذه المجموعة خمس الناتج الاقتصادي العالمي و40 في المئة من سكان العالم (حوالي 3 مليارات نسمة)، فضلاً عن المساحة الجغرافية الهائلة (40 كلم مربع) وتقدر بـ30 % من مساحة اليابسة في العالم، كما تعتبر اقتصاداتها الأكثر نمواً في العالم، والشيء المستجد في القمة الأخيرة هو قرار تدشين إنشاء بنك التنمية الذي يبلغ رأسماله الأولي 50 مليار دولار، وكذلك إنشاء صندوق للاحتياطات النقدية بقيمة 100 مليار دولار.
وفقاً للهدف المعلن لقيام البنك هو المساهمة في الجهود الدولية والإقليمية المتعددة الأطراف والمؤسسات المالية الرامية إلى دعم التنمية على المستوى العالمي، غير أن التوجه الفعلي هو تشكيل مؤسسة دولية موازية للمنظمات الاقتصادية والمالية الدولية القائمة ، على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تسيطر عليهما الولايات المتحدة بالدرجة الأولى في ما يتعلق بتعيين إدارتها أو توجيه سياستها واتخاد قراراتها ، غير أن تلك المؤسسات الدولية على مدى عقود لم تفعل شيئاً يذكر على صعيدي النمو والتنمية في بلدان الأطراف (العالم الثالث) التي تعاني الفقر والتخلف والبطالة والتبعية رغم ثرواتها الهائلة.
وللحديث صلة..