عبدالعزيز السماري
عاد تفجير المساجد ليضرب في جزء غالٍ من الوطن، وكأن هناك من يريد أن يصل إلى مبتغاه من خلال رسالة الدين، أو عبر طريقة معالجة الفكر الديني المتطرف بالتي كانت هي الداء على طريقة اللقاح، أو بـ»داعش» التي تطبق الفهم المتطرف للدين، أو الدولة التي تدور حول تأسيسها كثير من الأسئلة، ودليل ذلك تمتعها بالاستقرار والتخطيط في ظل وجود تحالف دولي ضدها، الذي يبدو أنه يضل الطريق حين تقلع طائراته لضرب أراضي وقوات «داعش».
ظهرت فرق للمناصحة في محاولة لمداوات التطرف الديني، بطريقة داوها بالتي كانت هي الدواء أو السلفية الحقة كما نؤمن بها، لكنها لم تنجح، وظلوا في غيهم، والسبب أن المناصحين جاءوا من نفس قاعدة الفكر، وعليك أن تتخيل طريقة الحوار بين الضالين والمناصحين، الذي يدور حول وجوب طاعة الإمام، وعليهم أن ينتظروا دولة المؤمنين التي وعد الله بها عز وجل عباده، أو ينتظروا خروج المهدي في المستقبل.
بينما كان المفترض أن يتم التعامل معهم إذا ثبت إجرامهم على أنهم مجرمون في الحق العام على الدولة والمجتمع، وأن يتم تقديمهم إلى محاكم تقاضيهم على فعلتهم الشنيعة في حق الوطن، الذي يرتبط مع مواطنيه بعقد اجتماعي يوفر لهم الأمن، ويسهل لهم المعيشة الكريمة، وأن يتم تجريم الفهم المتطرف والإرهاب الذي يجيز القتل وإهدار الدماء، وأن يكون هناك مرجعية مكتوبة تقضي بأقصى العقوبات للذين يجرمون ويقتلون ويفسدون في الأرض أيًا كانوا، إذا ثبت تورطهم إما بالفعل أو القول والتحريض.
من الواضح أن الذين يقفون خلف «داعش»، يدركون جيدًا المفاهيم السلفية المتطرفة في مسألة تطبيق الشريعة، وأن فيها منافذ للخروج المسلح على الدولة أيا كانت، إذا رأت مجموعة من طلبة العلم الديني كفر الدولة حسب فهمهم المتطرف للنقل، التي يحتوي على نصوص توحي للمتلقي العامي أن القتل والتفجير والتحريق والنحر والسبيء فصل من فصول الشريعة إذا تم تطبيقها حرفيًا، ويدرك المتابعون لتطبيقاتها ذلك الفصل، فقد اتخذت دولة «داعش» بعض المفاهيم المتطرفة في تطبيق الشريعة شعارًا لها، كالسبئ والنحر والتحريق وغيرها.
في اتجاه آخر، يعتبر المستشرق البريطاني الشهير برنارد لويس عراب الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن، ووصل في أهميته إلى أن يكون منظرًا لحروبه عابرة القارات لمحاربة الإرهاب الإسلامي، ولذلك كان من أهم الشخصيات التي صاغت نظرية الفوضى التخريبية لتقسيم الشرق الأوسط، التي كانت تقوم على موقف عدائي للسلفية المتطرفة بعد تبني القاعدة لغزوات مانهاتن وللتفجيرات للمصالح الغربية.
في كتابه «أزمة الإسلام.. حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس»، ربط برنارد لويس بين حركة الإصلاح الديني التي قادها الإمام محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب وبين التحدي الغربي للعالم الإسلامي، وباختصار نجح لويس في زرع قناعات لدى البيت الأبيض والرأي العام الأمريكي بأن الوهابية هي حركة عدوانية تجاه الغرب والولايات المتحدة مستدلاً بالتوافق بينها وبين الحركات المتطرفة حسب قراءته لهما، وبالتالي يتفق مع تيار اليمين المسيحي الأمريكي الجديد الذي يعتبر أن «الوهابية» بطبيعتها حركة مضادة للغرب، وبالتالي داعمة للعنف ضده، وأن فهمهما المتطرف يقف خلف الإرهاب السني.
في الوقت الحاضر تطورت قناعات لدى الإدارة الأمريكية أننا غير جادين في الخروج من دوائر الفهم المتطرف للدين، وأن بعضنا لايزال يرعى التطرف، ويعلمه للطلبة في المدارس، وأشار تقرير أمريكي أخير إلى أن أكبر دراسة لمحتوى المناهج السعودية قد تمت في السعي لكشف المواد «التحريضية» فيه، وذلك بعد أن أبقت الولايات المتحدة الأمريكية الدراسة عن محتوى مناهج المدارس السعودية سرًا، بعد اكتمالها بنهاية العام 2012، ويشير تقييم للدراسة من قبل منظمة يمينية أن الكتب المدرسية السعودية «تخلق جوًا يعزز عدم التسامح يدعو للعنف الذي يهدد الأقليات العرقية والدينية..
من خلال هذا الرؤية المنحازة، وغيرها من الأسباب، كان ميلاد «داعش»، التي تقدم صورة متطرفة جدًا للسلفية في قالب سينمائي غير مسبوق، ولا يعني ذلك أن الأمريكان متورطون مباشرة في إدارتها، لكنهم سمحوا لها بالتسهيلات على طريقة غض النظر، لتطوير سياسة التدمير الذاتي، التي تعني تغيير طرفي مواجهة الغرب مع التطرف، إلى معركة مع الذات، وقد نجحوا في جذب جماعات سلفية متطرفة في شمال العراق، وتتم إدارتها من خلال إستراتيجية استخباراتية متطورة جدًا، ثم توجيهها ضد منابع الفكر السلفي ومصدره الرئيس.
لن نحتاج إلى سرد كثير من الأدلة لإثبات ذلك، فقد فضحته مواقف قوى التحالف المتخاذلة، التي تقوده الولايات المتحدة، وقد اعترف أوباما باجتماع G7 أن أمريكا ليس لديها إستراتيجية في الحرب ضد «داعش»، وهو ما يعني أن التحالف الغربي يعاني من الجدية في إنهاء دولة الإرهاب الديني في المنطقة، التي مازالت تتمتع بقدراتها كاملة في الهجوم على الدولة المجاورة، وفي تصدير وتجنيد المفجرين لنقل المعركة إلى داخل معاقل السلفية الأم، وقد تنجح الخطة الغربية في التخلص من الفكر المتطرف من خلال استراتيحية المحرقة أو الفخار الذي يكسر بعضه بعضًا.
من أهم أهداف وجود دولة «داعش» تغيير الموقف الشعبي ضد الفكر السلفي المتطرف، من مؤيد إلى معارض له، وأيضًا زيادة معدلات الكراهية ضده، ثم التخلص من «داعش» إذا تمت المهمة، وربما تطول المعركة، ولكن سيكون الخاسر فيها نحن، أو أولئك الذين يريدون أن يعيشوا حياة مدنية بعيدة عن العنف..
ولكن هل سنقبل أن يكون الوطن ومساجده وأبناؤه محرقة بشرية في الحرب الاستخباراتية الغربية ضد الفكر السلفي المتطرف من خلال نفس الفكر..! أم أن الوقت حان لتخليص عقول شبابنا من الفهم المتطرف للدين عبر إستراتيجية وطنية محكمة، والله على ما أقول شهيد.