عبدالله بن محمد السعوي
سطر فقيهنا الفيلسوف «بداية المجتهد» في سياق اهتمامه الفلسفي ونشاطه في التأليف في هذا الميدان ولذا بدا هذا السِفر الفقهي مختلفا في معالجته لمفردات الـ»خلاف العالي» حيث تنازعته بصمات تجمع بين الفقه من جهة والفلسفة من جهة أخرى
فكما أنه ينطوي في طياته على ألوان من قوالب الاشتغال الفقهي وأدبيات الفقه المقارن فهو يحتوي أيضا على روح مفعمة بالسؤال الفلسفي الذي نذر له فيلسوف قرطبة شطرا واسعا من فكره الممتد.
كانت البيئة الممعنة في التقليد والمتكئة على أولوية الحفظ والاستظهار دافعا أساسيا له ليدشن لحركة تصحيحية عميقة وذات نفَس منفتح على مستوى المادة الفقهية ولذا راح ينفق جهودا اشتغالية لافتة في سبيل تجاوز العقلية الفقهية السائدة ومحاولة الكشف عن «ميكانزمات» هذا النمط بغية إحداث طفرة فقهية تنتشل الفقه من براثن التقليدية وتخلصه من سلطويتها الذهنية وتعلي من مستوى الفقيه لا من حيث إثراء ذاكرته الفقهية فحسب بل ونقله – وهذا هو الأهم - من تقليدية الاستهلاك إلى فضاءات التأمل ورحابة السؤال.
روح التفلسف ظلت حاضرة وبكثافة في صلب متن فقهيات ابن رشد وعلى نحو يكاد يتعذر فيه فصل المساهمة الفقهية عن المساهمة الفلسفية ولذا كانت الدعوة إلى تكثيف البعد التأملي وإعلاء وتيرة التدبر الذي يوقظ الفكر ويحرك السؤال أضحت تلك الدعوة شعارا يتمدد على صفحات هذا السِفر الفقهي خلافا لما هو مألوف وسائد في هذا السياق الظرفي حيث طغى الاجترار والتكرار بل وإعادة إنتاج المكرور وبشكل ضمرت معه ذاتية الفقيه وامحت شخصيته الاستقلالية وقلت من ثم فرص التفاعل مع ألوان الواقع الحي الذي يتجدد باستمرار.
فيلسوف قرطبة الذي أُخِذ عليه الذوبان فلسفيا في شخصية الـ»معلم الأول» أراد لكتاب الـ»بداية» أن يكون ذا بنية معرفية منفتحة تفتح الفضاء العلمي على رحابة التأمل وهو الأمر الذي حداه إلى ترك بعض المسائل الفقهية مفتوحة ومؤجلة الحسم كلون من الوفاء لطبيعة المنهجية التي توخاها وكتجسيد لمصداقية الشعار العام الذي روج له «الشارح» وهو شعار التأمل والتدبر حيث كان له «مصاديقه» المترامية في أرجاء هذا الكتاب.
كان جل اهتمامه منصب على الإحاطة بأصول المسائل وأمهاتها والتي عبر عنها بأنها «مسائل الأحكام المنطوق بها في الشرع» في حين لا يبدي كثير حفاوة بالفروع بحكم طبيعة كتابه الذي هو على حد عبارته: «مختصر لا يليق به ذكر الفروع».
المنهج الإشكالي الجدلي تجلى في الـ»بداية» وتمظهر في تلك السلسلة التساؤلية المتشابكة التي يستهل بها بعض الأبواب كإشكاليات تستفز العقل الفقهي وتضع أمامه شبكة من التحديات التي تحرض على البحث عن ما ورائيات المتن وعما هو ثاو خلف سطوره انظر مثلا حينما يتحدث عن «النية» وعلاقتها بالصوم أو حينما يتناول مسألة «عقد النكاح» وهل هي في يد الولي أو الزوج, أو حينما يبحث مسألة «الأضحية» وهل الذبح محصور في النهار فقط أم هو متاح في الليل كذلك، في تلك المسائل وغيرها كثير يسرد ابن رشد جملة من التحديات الفقهية ابتغاء نقل الفقيه من دائرة التكرار والحفظ والاستظهار إلى دائرة النظر والبحث عن الماورائيات الفقهية وإمعان التأمل المنتج بعيدا عن سلوكيات الاستظهار العقيم.
الطابع التأملي يتجلى كثيرا في المتن الرشدي فيما سماه بـ:»الفقه الجاري على المعاني» وهوفقه غائي يتكئ على البحث عن التعليل والمقاصد وتلمس الأسرار الفقهية الثاوية خلف السطور, وهو نمط فقهي تحتفي به كثيرا المدرسة الحنفية خلافا للمذهب الظاهري الذي لم يكن لمثل هذا الهاجس العلمي فيه أثر يذكر! وابن رشد في انحيازه لـ»الفقه الجاري على المعاني» لا يستدبر النص بقدر ما يجعله متآزرا مع النظركما في معالجته مثلا لمسألة «الماء إذا خالطته نجاسة» حيث اشتغل في هذا السياق على مقاربة معرفية يتقاسمها العقل والنقل, ولا غرو فـالـ»بداية» كما هو مشاهد تكتنز بمادة حديثية ثرة وعلى نحو يكشف عن مدى حجم الحضور النصي في ذهنية قاضي قرطبة.
يتبع