عبدالعزيز صالح الصالح ">
حينما يقلِّب المتأمل النظر في هذه الحياة وما يجري بها من آلام متنوعة فعبر تاريخ الإِنسان تسوده موجات متعاقبة في عصور مختلفة وأمم متعددة، فأحياناً تسوده موجة العجز وأحياناً تسوده موجة المرض، وأحياناً تسوده موجة الفقر وأحياناً تسوده موجة السلب، وأحياناً تسوده موجة الامتحان والابتلاء.. وأحياناً تسوده موجة القتل والتشريد... وهكذا. فقد قسَّم علماء النفس الألم إلى أنواع متعددة مثل الموجات التي ذكرت سابقاً، فتجد نوعاً عند وجع الأسنان ونوعاً عند فشل المرء في كافة محاولاته، فالمرء في جميع أفعاله وأعماله يطلب لذة الصحة ولا يطلب شيئا غيرها، ويبتعد بكل ما يملك عن الألم، ولا يحاول أن يبتعد عن شيء غيره، وأنه عندما يبتعد عن لذة الصحة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وأنه عندما يتحمل الألم فإنما هو يفر من ألم أكبر من ذلك ويتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل..
فالنظر إلى أثر لذة الصحة في هذه الحياة العامة وأثر الألم فيها، ولا يمكن أن تتصور لذة بدون ألم، ولولا عواطف الألم ما كان شعر ولا فن ولا تصوير ولا معان إِنسانية ولا وطنية ولا قومية، فالألم الذي يصيب المرء إنما هو تحذير من الأخطار المستقبلية. فصداع الرأس والمغص مثلاً علامة مرض تنبِّه المرء إلى وجوب ملافاته، ومن أجل ذلك جرى على ألسنة الناس المثل المعروف - (المؤمن مصاب)، فعالمنا اليوم مبني على الخير والشر واللذة والألم والفضيلة والرذيلة والسعادة والشقاء، وكل منهما كأحد جانبي الوجه لا يكمل إلا بجانبه الآخر ولا يفهم إلا بالآخر من خلال سياق الحديث، سوف استأذن القارئ الكريم بالخروج عن النص برهة وذلك من أجل إعطاء أمثلة متعددة.
عندما نبحث في عالم الأدب أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ أليس من علامة تماثل المريض للشفاء أن يحس بالألم بعد الغيبوبة؟ أليس أن خير الأمم من تألم للشر يصيبه والضرر يلحق به؟ وهل تحاول أمة من الأمم أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم؟ ومن نعم رب العباد أن أوجد أنواعاً من الألم فهي آلام بسيطة تتطلبها النفوس الراقية وتعشقها، فتجد مثلاً أبا العلاء المعري لولا ألمه من الفقر والعمى الذي جعله يتفوق شعراً ويبرز اسمه على الساحة، لو كان غنياً وبصيراً لما رأيت لزومياته تظهر على السطح ولا أعجبت بكلماته - وإنما خلده ألم نفسه وابقى اسمه قوة حسه - ولو أخذنا نعدد أدباء العرب والغرب فسنجد أنهم نطقوا الأدب أحياناً وألم الفقر أحياناً وألم الحب أحياناً وألم النفي أحياناً وألم الحنين إلى الأوطان، من خلال هذه المقدمة القصيرة عن مرارة الألم فإنني سوف أحلق أنا وانتم سوياً في أجواء مرارة الألم وما يعانيه الكثير من الناس، خصوصاً الذين يرقدون على الأسرة البيضاء داخل المشافي سواء داخل البلاد أو خارجها، لا يخلو أي إِنسان منا في هذه الحياة من المرض، فمحدثكم قد مر بمرارة الألم لفترة من الوقت داخل المشفى وخارجه، وبعد توفيق الله تمكن المختصون من الأطباء من علاج العضو الذي كان السبب في مرارة الألم، وبعد العلاج لا يزال المرء يعاني من مرارة الألم - من لم يتألم في يوم من الأيَّام فليس بإِنسان - فالألم ليس مذموماً دائما ولا مكروها أبداً، فقد يكون خيرا للعبد أن يتألم، وللألم وظيفة بقائية وتكيفية للكائن الذي لا يتعلم الألم، فالمشكلة عندما لا يكون الألم مقيداً هنا يصبح مرضياً.
وكم أنتجت الرفاهية ورغد العيش من أدب عظيم أعتقد أن الألم ورغد العيش كلاهما ينتجان أدباً حياً مع اختلاف النكهة.
فهناك من يتذوقون الثمار فقط دون أن تمتد أيديهم إلى الأشواك، فالألم لا يحف إلا الطريق نحو مزيد من الألم، إلا ما كان منه ضرورة للابتعاد عن مسببات الألم الحقيقية، فألم الرجل ظاهري وألم المرأة باطني لكل منهما ألمه الظاهري والباطني، فالألم لا يفرق بين رجل أو امرأة ولكن الأمر الواضح والمعلوم أن النساء على وجه العموم يعبرن عن آلامهن النفسية والجسدية أسهل وأكثر من الرجال.
فالابتسامة تبعث على الارتياح. بغض النظر عن فاعلها أليس تبسمك في وجه أخيك المسلم صدقة؟ ومع هذا الأمر نبخل بها وكأنها تنقص من مالنا شيئاً.
فالألم خبرة بشرية ليست حكراً على أحد من الناس، ولكن رجاء الله مع العمل يخفضان الألم ولو انعدمت الآلام والرذائل والآثام ما كانت الفضائل العالية ولا الأعمال النبيلة ولا أعمال البطولة التي يتغنى بها الشعراء، ولو انعدم القبح لا نعدم الجمال ولولا الأشقياء ما كان السعداء وهكذا.
وأختم الحديث عن الألم بقول الله - عز وجل - {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} سورة الأنبياء آية (83).
قال الشاعر الحكيم:
قَد يُنعِمُ اللَهُ بِالبَلوى وَإِن عَظُمَت
وَيَبتَلي اللَهُ بَعضَ القَومِ بِالنِعَمِ
- الرياض