د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في مساء أربعاء حريري باذخ فتحت سوق عكاظ صناديق كنوزها الملأى بالهدايا والهبات؛ وكانت في رحلتها التاسعة؛ تحمل حواس العرب الأسطورية إلى العصر الحديث، فقد كان التراث غاطسًا في حنادسه يُضاء وفق أمانة الرواة؛ فأصبحت عكاظ المكان والتضاريس ذاكرة جديدة، تستجلب الموروث الأصيل، وتلبسهُ حلة عصرية، فتوشّحت عكاظ اليوم علامة فارقة في الثقافة الحاضرة، وأصبحت تظاهرة ثقافية ناصعة الصورة كما كانت في ماضيها السحيق أصلاً بارزًا في تاريخ العرب.
عكاظ في الجاهلية مبعث منافرة، وزناد حرب، تحفّزها عادات الجاهلية، وعلى أرضها تختضب أفكار العرب وآدابهم؛ يتصدّرها كيان الضاد؛ تتنازع القبائل ارتداءه والنبوغ فيه كما كانت عكاظ معرضًا للتجارة، ومؤتمرًا للسياسة والرأي والاجتماع، واحتكمت القبائل على أرض عكاظ في الحرب والسلم كهيئة الأمم اليوم (دون حق النقض) حيث قوة المكان آنذاك ارتباط مشروط لتعظيم المواثيق؛ فذاك من مروءات العرب الخالدة؛ احترام العهود، والتحرز من الخيانة الخفية فكان العربي يواجه أشد خصومه ضراوة وجهًا لوجه وفي ذات الوقت يحمي ظهره من الخلف أن غُوفل.
يقول أمية الخزاعي:
ألا من مبلغ حسان عني
مغلغلة تدبّ إلى عكاظ
ويقول المخبّل مفتخرًا:
ليالي سعد في عكاظ يسوقها
له كل شرق من عكاظ ومغرب
هناك في سوق عكاظ في صورتها الأولى كانت تنصب المنابر لحكماء العرب، أو يقفون على جمالهم يخطبون وكان من بينهم حكيم العرب قس بن ساعدة، واستمع له نبينا محمد صلى الله عليه قبل الإسلام وهو غلام؛ ولما أتى قوم قس بعد الإسلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعوه قال لهم عليه السلام: «يرحم الله قسا إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحدة».
وتلتقي اللهجات العربية هناك أيضًا، وتقوم سوق النقد، ولم تكن العرب تحرص على شيء أكثر مما يحرصون على البيان، ولم يكن الفخر لديهم أعظم من أن يكون في القبيلة لسان يشيد بمفاخرها؛ ذلك أن البلاغة واللسان صفتان مميزتان لهذه الأمة، فقد ذهبت الأمم تنشد فخرها في مجالات شتى؛ وركزت أمة العرب فخرها في لسانها، فجاءت عن طريقه بالمعجزات، وكانت تضرب قبة أدم بذاك السوق يتربع بها نابغة بني ذبيان حكمًا أول لينتظم حوله عقد الشعراء من كافة القبائل يعرضون عليه حصاد عامهم ذاك مما هذبتّه القرائح وأبدعته..
ولمّا أن كانت بلادنا المملكة العربية السعودية لا تتوقف عند المرافئ، فقد أخرجت واقع سوق عكاظ اليوم، واغترفت من حياض تاريخها سيلاً من الإفصاح عن أهمية الارتواء بالواقع الجديد، وأضافت إلى كنوزها الأولى حصيلة أخرى هي الآن في فاخر أعوامها التسعة بإحياء سنوي مثير للإعجاب والدهشة؛ فصارت عالمية عكاظ على أرضها وحدودها مدادًا ينبض، وتراثًا مُعتّقًا يفوح أريجه بشموخ الموقع وبريق المحضن.
عكاظنا اليوم تتجذر في التاريخ، وتعانق الحاضر وتنفتح على المستقبل، كما تحظى سوق عكاظ اليوم بقوة كبيرة في تشكيل وجودها، ورسم ملامحها، التي تمكنه من الاستمرار
والمنافسة، ودعم نهضة وتطوير ثقافة الأجيال، ويتمثل ذلك في انتشارها كجدول يصنع جسور التعايش حتى تبرعمت جوائزها للعديد من المبدعين العرب، كما استضافت عكاظ ضيوفًا من خارج البلاد، وجلبت بذاك دوائر النقل الثقافي ممثلة لثقافاتها في مجالات السوق ونشاطاته، ولتشكيل ثقافة سياحية عظيمة؛ ولبّت عكاظ اليوم حاجة الشيوخ والشباب في جوانب المعرفة، ولامست طموحاتهم الثقافية وإن تباينت مواقعهم حيث يقطنون، فاجتمع على أرض عكاظ المثقفون واجتمعت لهم عكاظ وسكنتهم وسكنوها.
وفي يوم الافتتاح كان هناك نسيج حريري فاخر لبسه الحضور، نسجه عقل خالد الفيصل ذلك الأمير العبقري الحفي بالثقافة واستجلابها وتطويرها، والشفيق بالشعر والفن، والمبدع في ذلك كله؛ وسموه من يؤكد للعالم أن هناك حضارة إسلامية جديدة قادمة «إن تنمية الثقافة والفكر والأدب، وتشجيع العلوم والمعارف الحديثة، ورعاية الموهبة وتشجيعها هو طريقنا نحو بناء الحضارة الإسلامية الجديدة لنؤكد للعالم أن الإسلام دين ودنيا»
هكذا أراد خالد الفيصل من استدعاء الماضي بألا يكون فعلاً عاطفيًا فحسب، بل يشمل أهدافًا إستراتيجية لتنمية الإنسان والمكان.
ومن عروق التاريخ في فضاء عكاظ جادته الشهيرة؛ تلك القوة الخارقة التي تلهب الشعور والمشاعر، وتحرك الأحاسيس وتوقظ المواهب؛ فعندما تبعتُ الجادة تبعتني مقاصدها السامية فهناك حراك تراثي فاعل يشرق في حاضر فاعل أيضًا، حيث يحتضن أكثر من مائة وستين صناعة وحرفة أراها نافذة أخرى من نوافذ الإطلالة المشرقة على عكاظ وأهلها.
وهناك خيمة عكاظ التي ملكت هوية خاصة؛ حين أصبحت ثقافة ومثاقفة، وتوأمه بين قوانين الأدب المعاصر وبين أمراء الشعر القديم الذين نبغوا في إمارة صنعوها من أطلال وخيل وليل؛ هذه التوأمة المذهلة جعلت جمهور هذا العصر يلتقون في بلاط عكاظ بالملك الضليل، وصنّاجة العرب، وعنترة وابن كلثوم وزهير؛ وفي مساء الأربعاء الحريري في عكاظ كان هناك موعد جديد باذخ مع لبيد بن ربيعة العامري؛ استدعته أرض عكاظ، وجعلت شخوص الحاضر تطارده في غيابه السحيق شغفًا، وتحاوره في حضوره المبتدع في حرّفنة استباقية مذهلة حتى تمكنت عكاظ من استرداد ملامح لبيد من سقف السيادة الصحراوية إلى أوساط حشود أخرى؛ فصعد المسرح في عكاظ درجات أعلى في إتمام الوشائج بيننا وبين لبيد في مسرحية»سراة الشعر والكهولة»فما أعذب فلسفته في الزوال عندما قال:
طال قرن الشمس لما طلعت
فإذا ما حضر الليل اضمحل
وما أعمق حكمته عندما قال:
وأخو القفرة ماض همّه
كلما شاء على الأين ارتحل
وأجزم أنني قصّرتُ في وصف التظاهرة الثقافية لأن البحر امتلأ بالأصداف فاتسع على الغواص، فهذه هي سوق عكاظ العصر الحديث انبلج نورها في مرتبعها وحدودها في محافظة الطائف، وأحاط القائمون عليها بجدارة بالاستبصارات الماضية من تراثها وجعلوها مركبًا لقيادة الحاضر باشراقات الماضي يتصدر مراكبهم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيس اللجنة الإشرافية العليا لسوق عكاظ.
ولا بد لنا من وقفة حيال نصيب الناشئة من الغنائم، فما أحوجهم لتلبس الاعتداد بتراثهم في ثوبه العكاظي الجديد، ليكون سلَّمًا للمعالي في حاضرهم ومستقبلهم، فلعل وزارة التعليم تستقبل عكاظ عبر وسائل التواصل المناسبة ليحاكيها الطلاب في برامج النشاط ويتمثلونها في واقع ثقافتهم.
بوح لصانع عكاظ الحاضر، يقول أبو ذؤيب الهُذَلِي:
إذا بُني? القبابُ على عكاظ
وقام البيع واجتمع الألوفُ
وأقول:
فإن أميرنا وعكاظ? بحرٌ
وأنّ أميرنا فذّ شغوفُ
وأنّ أميرنا ما صاد صيدا
نعم تلقاه بالبشر الألوفُ
شكرًا عكاظ فقد كنت بِنَا حفيا..