د. حمزة السالم
الفجوة الزمنية تغيب عن أذهان كثير من الناس. فما يزرع اليوم يحصد غداً. وتحركات المجتمعات الإنسانية، سواء أكانت ثقافية أو سياسية أو اقتصادية، لا تخرج عن هذه القاعدة الكونية. فكارل ماركس مات قبل الثورة الاشتراكية بعقدين أو ثلاثة، كانت هي فترة احتضان أفكار الماركسية. كما إن أصول الماركسية مستمدة من المزدكية، فالفكر الإنساني متى وثِقت أصوله لا يفنى، بل يتحول ويتطور. ولا يوثق الفكر الإنساني إلا انتصار الدول له. ولولا نصرة أمراء ألمانيا لأفكار مارتن لوثر التي فضح بها فساد الكنيسة الكاثوليكية، لما كانت البروتستنتية لترى النور. ولولا البروتستنتية لما خرج النصارى من الجهل والتخلف. فالكاثوليكية، في منعها للعلم، كانت تحرق النصراني الذي يقرأ الإنجيل. ولولا تعاطف ملك بريطانيا مع البروتستنتية ثم انتصار ابنته لها من بعده والتي حكمت بريطانيا أربعين عاماً، لما كانت - والله أعلم - أمريكا اليوم إمبراطورية عظمى. فالإسبان الكاثوليك استعمروا أمريكا الجنوبية وبريطانيا استعمرت الشمالية. والمعتزلة تسببوا على المسلمين بتحريم المنطق فحُرِم العلم فتخلف المسلمون فاتخذوا لهم رجال دين كما اتخذ اليهود والنصارى. ولو تأملنا أي شاهد من الشواهد السابقة، فسنجد أنّ الزراعة سبقت الحصاد، والغالب في فترات الحضانة يدور حول ثلاثة عقود، فتظهر الثمار لتبدأ مرحلة حضانة أخرى من أفكار متولدة من ثمار الحصاد السابق، فزراعة ُحضانة فإثمار فتوليد فزراعة فحضانة فإثمار وهكذا تتقدم الأمم أو تنهار. فالسيئ يولد الأسوأ والجيد يولد الأفضل. فمن سبق فات ومن تأخر مات.
والأثر الفكري أو الاقتصادي يمتد أجيالاً. فنهضة المسلمين العلمية كانت تقريباً في عهد المأمون في بغداد والأندلس، ثم حورب العلم بعد ذلك، لكنه أثر النهضة العلمية استمر قروناً. وابراهام لينكون حرر العبيد، ولكن السود ما زالوا في الفقر إلى اليوم. فحصار الجهل الذي فرضه عليهم أسيادهم أيام رقهم، أبعدهم عن الأعمال العقلية وأشغلهم في البحث عن ضروريات حياتهم. وثقافة النظرة الدونية للأسود، ظلت تتناقل في تناقص مع الأجيال، حتى نصبوا عليهم اليوم أسوداً سيداً عليهم لتفتيت العنصرية العاتية عن الزمن.
- وإذا ضيقنا مجال الزمان والمكان والحال، فحصرناه على أنفسنا لنرى أين نقع نحن بين كل هذا، واتخذنا من أثر الطفرة الأولى على المجتمع، فسنجد أن هناك من يستشهد بخير الطفرة الأولى بالتقليل من خير الطفرة الثانية.
فمثلاً تسمع من يقول إن جيل الطفرة الأولى واجهوا حالاً أفضل مما واجهه ويواجه جيل الطفرة الثانية. والعكس هو الصحيح. فجيل الطفرة الثانية يواجه تحديات بسيطة تصقل بعضاً من المواهب. بينما تخدّر جيل الطفرة الأولى وتنمّلت أطرافة وانشل فكره بترف الإنفاق عليه بلا عمل ولا جهد.
وعلى العموم فكون أن الفرصة - كما أزعم - هي أفضل اليوم لهذا الجيل من جيل الطفرة الأولى ، فإنّ هذا لا يعني نفي أثر الإحباط والفقر، الذي ورّثه لهم جيل الطفرة الأولى. ففترة السنوات العجاف، هي فجوة الزمن التي تتحول فيها الولاءات والآراء. فجيلنا نحن، أدركنا حلم البترول وأنه لا خوف علينا أبداً. وهذا الاعتقاد يحتاج وقتاً ليتغير ويحل الإحباط محله.
كما أنه من جهة أخرى، فالفرص التي أتت منذ عشر سنوات لا تتمتع بنفس المقدرة على الإسعاد وإبعاد الإحباط كالتي كانت في الطفرة الأولى.
فالطفرة الأولى كانت ناقله من فقر وعدم معرفة للمستقبل إلى قفزة إلى الثراء العالمي.
كما أنها لم ترث إحباطاً سابقاً بل قناعة شعبية بالقليل فجاءها الكثير. والعشرون العجاف التي خلفتها، مسحت الرضا وبنت الإحباط.
والعشر سنوات الماضية، سنوات الطفرة، جاءت على خراب نفوس يحتاج لإصلاح. وكذلك جاءت وهي لا تستطيع أن تقدم مستوى العطاء الذي قدمته الطفرة الأولى لكثرة الناس اليوم ولتقنين فوايض البترول. وهي إلى الآن لم تأت ثمارها.
لذا فالنظرة الصحيحة أن يقال، إن الطفرة الثانية كانت عاملاً في منع انهيار البلاد الذي كان حتمياً لو أن البترول لم يرتفع مع الغفلة عن الفساد.
العشرون العجاف التي كانت بين الطفرتين، هدمت الأمل والشكر الذي بنته الطفرة الأولى وغرست الإحباط في جيل ما بين الطفرتين، وقادت البلاد إلى شفا الانهيار الاقتصادي. والعشر الطيبة التي تبعتها منعت الانهيار ومحت بعض الإحباط فما زال الطريق طويلاً. فالفقر هو أساس الإحباط وقيام الثورات.
فعشر سنوات الطفرة الأولى أكلتها العشرون التي تبعتها، فهذه ثلاثون عاماً، فهي دورة زمنية واحدة. ثم جاءت عشر سنوات الطفرة الثانية فنحن إذاً مقبلون على مرحلة زمنية جديدة، إن أعادت نفس نمط العشرين التي سبقتها، فإنها لا سمح الله ستكون دورة زمنية رافعة خافضة.