إنّ سورة الرحمن بما تميزت به من البلاغة القرآنية والإعجاز المتكرر فيما ظهر للناس وما خفي عنهم تدعوا إلى فتح آفاق التأمل والتدبر. وقد تثور أسئلة كثيرة عن المعاني الكامنة في كلماتها المباركة وعن الحكمة الإلهية في تكرار آية (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ إحدى وثلاثين مرة في سياق يحير العقل اللبيب، ويدعوه إلى الوقوف تأدباً أمام كلام ربنا طالبا الفتح من الفتاح الكريم. والحقيقة أن السورة ابتدأت بالكلام عن رب العزة، في نوع خاص لا تجده في أي سورة أخرى. (الرَّحْمَنُ) وهي صفة من صفات الله جل جلاله، التي تكون عامة على جميع الخلق برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، تماماً كما جاء هذا القرآن مخاطبا الجميع على حد سواء.
وإذا تتبعت السياق في هذه السورة وجدت (الرَّحْمَنُ) جل جلاله يخاطب خلقه بطريقة ذات طابع فريد. فتارة يحدثهم عن: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) والزرع كما هو معلوم على أضرب كثيرة، منه ما يكون من الحبوب التي يتغذى بها الإنسان، ومنه ما يسمى العصف وهو على أقسامه وأشكاله طعاما للبهائم فمنه أخضر ويابس، ومنه ما يكون ذو رائحة طيبة يستخدم في أنواع الطيب. ولا تقف أنواع الزرع عند هذا الحد، بل إن بعضها يستخدم للتطبب، والبعض الآخر للزينة. فأنت ترى أن هذه الآية خاطبت عقولا كثيرة وثقافات متعددة كل في تخصصه ومحيط فهمه. وبعد أن أقيمت الحجة على هؤلاء جميعا قال الله (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟.
وفي موضع آخر يحدثهم سبحانه عن أمور كانت غامضة عنهم فيقول: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)) فإذا نظرت إلى ما تقوم به محطات التحلية من استخراج الماء العذب من ذلك المالح في البحار، علمت أنّ (الرَّحْمَنُ) سبحانه قد فصل ابتداء بين الماء الحلو والماء المالح، وإلا فليس للبشر قدرة على نزع مادتين من مادة واحدة. فهذا البرزخ إنما هو واقع بين الماء الحلو الذي اختلط بالمالح، وهو في الحقيقة إنما هو مزج في عين البصر وفصل في عين البصيرة. والله جل جلاله يقول: (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ), حيث اختتم سبحانه الآية بنفي العلم عنهم، فقبل أن يتمكن الناس من علم التحلية، كانت قلوب المؤمنين متيقنة بوجود هذا الفاصل ويرونه بأعين بصيرتهم، وكان الماديين لا يرون إلا بأبصارهم فكانوا ينكرون ذلك. فيأتي السؤال في كل زمان ومكان من الخالق الرحيم بخلقه، سؤالا يريدهم به أن يعودوا إلى رشدهم (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟. فإن قدرته على خلق الأشياء وإعادتها، ومزجها وفصلها، وتغيرها في نمائها، أمر مأنوس في أعين الطالبين، ومفتاح لمغاليق الأفكار عند الباحثين.
فالآيات جاءت لتخاطب البشر في هذه السورة ليس للتحدي كما في مواضع أخرى، وإنما هي رحمة الله الواسعة لجميع الخلق. فبين لهم سبحانه من الأمور المادية والغيبية والكونية وغيرها مما تدركه عقولهم ومما لا تدركه. ففي السورة من خصائص الخطاب أن كل فقرة لها استقلاليتها مكونة مادة مستقلة للتفكر والتبصر متاحةلجميع الناس، منها ما هو واضح لذي البصيرة، ومنها ما يحتاج إلى تدبر وتأمل أعمق، لتجد البشرية من دلائل الهداية ما يجعل مشقة البحث والتنقيب وجماليات الحياة، اقصد حياة معايشة الذكر الحكيم، وبيان ما أرسلت الرسل به وله (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ومع هذا وذاك فهو يردد عليهم جل جلاله سؤاله بكل لطف ورحمة (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟.
فبعد الابتداء بقوله: (الرَّحْمَنُ) الذي سرد الأدلة التي تخاطب العقول باختلاف قدراتها وإمكاناتها، وتخاطب الناس في كل زمن كظاهرة تطغى على جميع المواقف والأزمنة، ختم سبحانه السورة بتعظيم مقامه الذي ابتدأ به فقال: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ). وهذه لمحة بسيطة ودعوة للنظر، وليست استقصاء لما جاء في السورة من الآيات الجميلة التي إنما هي إرشادا للقارئ، وحثا على إعمال فكره، والنظر في التراكيب القرآنية المعجزة.
وأدعوك أيها القارئ الكريم إلى إعادة قراءة هذه السورة، والوقوف عند الغامض من المعاني وعدم التعجل في قراءتها وستجد ما يرضيك من جماليات تكتشفها بنفسك، وعلى الله قصد السبيل.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي