فيصل أكرم
الفنون، بمختلف مجالاتها وأجناسها، لم توجد من أجل المتعة فقط. كل فن مهما يكن مسلياً وممتعاً فهو بالأساس وجد ليؤدي رسالة تنويرية في عالم أساسه ظلام والشمس آية ودليل على دور النور في عقلنة هذا العالم وحيويته، بداية من سطوعها على الأرض لنرى الأشياء ومروراً بانعكاسها على القمر لنتعلم الحساب.
الكلام كبيرٌ هنا، ولكنني أردتُ فقط أن أدخل إلى موضوع فني، يخص فن (التمثيل) الذي خسر قبل أيَّام واحداً من أهم الأسماء العربية فيه (نور الشريف) رحمة الله عليه.
كثير من الممثلين رحلوا خلال الأيَّام والأسابيع والشهور الماضية، غير أنني أتوقف عند نور الشريف ليس لأدواره الكثيرة في السينما أو المسرح أو التلفزيون، بقدر ما هو لدور واحد عظيم فعلاً أدّاه في العام 1997 على شاشة التلفزيون مصححاً الكثير من الأخطاء التاريخية والأدبية بحق الخليفة العباسي (هارون الرشيد).
فكتب الثقافة والأدب، التي نعتبرها (أمهات الكتب) قد صوّرت لنا هارون الرشيد بصورة لا يمكن أن يمحوها عددٌ قليل من الكتب المصححة لتلك الصورة والمصوّبة لانحرافات كاتبيها المقصودة تماماً. فالذاكرة المعرفية تغلب على البحث والمقاربة، ويبقى في النهاية الأثر الذي من الصعب أن يمحوه أثرٌ من الجانب نفسه، وأعني جانب الكتابة والكتب.
قلتُ من الصعب ولم أقل من المستحيل، وقد يكون ذلك من المستحيل فعلاً، بخاصة إذا قرأنا الروايات الحديثة التي لا تزال تجتر اسم هارون الرشيد لتسقطه على كل رجل شهوانيّ غارق في اللذة مع النساء؛ وكذلك الشواهد من إسقاطات الشعر.. ويكفي من الشعر بيت الشاعر الأشهر في العصر الحديث، نزار قباني، في قصيدته الشهيرة (الرسم بالكلمات):
مأساةُ هارون الرشيد مريرةٌ
لو تعلمين مرارةَ المأساةِ!
التي يصف فيها حالة ذكورية شهوانية جنسية تعبت من التنقل فوق أجساد النساء (إلاّ ومرّت فوقه عرباتي!) وما إلى ذلك من مفردات القصيدة ومعانيها التي يعرفها الجميع.
نور الشريف، بتجسيده لدور هارون الرشيد، في مسلسل (الأمير المجهول) من تأليف عبد السلام أمين وإخراج أحمد توفيق، قد أعطى صورة مغايرة هي أقرب للحقيقة التي يجب أن تكرّس في الذاكرة، من أجل أن نكون منصفين مع أنفسنا والتاريخ والوعي المكوّن لأجيال تأخذ المعرفة بأسهل الوسائل؛ بحق خليفة على عصر ازدهرت فيه كل العلوم والفنون الخالدة.
تعجبني من أعمال نور الشريف - رحمه الله - أدواره المأخوذة عن رواية (الحرافيش) لنجيب محفوظ، فقد أتقنها في أكثر من فيلم ومسلسل، كذلك أفلام: البحث عن سيد مرزوق، ودماء على الأسفلت، وعندما يبكي الرجال.. ومن المسلسلات: لن أعيش في جلباب أبي. غير أن الفنان نور الشريف نفسه، في آخر مقابلة تلفزيونية له قبل رحيله، صرّح بأنه يرى دوره في مسلسل (خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز) هو أهم أدواره على الإطلاق. وهو بالطبع أعرف مني بأهمية الدور فنياً، غير أنني أرى شخصية (هارون الرشيد) كانت علامة تصحيحية فارقة للتاريخ الذي أتعبنا بأخطائه!
رحم الله الفنان نور الشريف، وكل فنان يقدّم في مجاله تنويراً ثقافياً بأيّ دور من أدوار الفنون.