عثمان بن عبدالمحسن العبدالكريم المعمر ">
عندما كنا صغاراً نعيش في قرية نجدية صغيرة، وكنت عندما أعبر بعض أزقتها الضيقة ذاهباً إلى مسجد أو خارجاً منه أو قاطعاً طرقاتها الضيقة لزيارة من يمتون لنا بصلة قرابة ألاحظ بقرة أو بقرتين أو بعضاً من الماعز، وكانت هذه البهائم العجفاء تتحاشى حرارة الشمس في أشهر الصيف القائظة فترى أن الذي أوجدها من العدم أرشدها أن تمشي وهي تباري الساس (وهذا اصطلاح نجدي يعني أن تمشي ملاصقة لجدران المنازل) فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقد استفدت من هذه الملاحظة منذ صغري إلى اليوم فأنا مثلاً أحاول أن أذهب إلى المسجد في أشهر الصيف ظهراً أوعصراً أو لمنزل قريب أو صديق أو جار يسكنون قريباً من مسكني، وأنا أباري الساس بحثاً عن الظل أوبعضه واتقاء لحرارة الشمس، ولو كان مروراً عابراً لثوان معدودة فأستظل بظل ساس أو شجرة، وقانا الله وإياكم ضربات الشمس، وليس من جرب كمن سمع. علماً أن أغلب أزقة قرى نجد غالباً ما تكون مظللة بالمجابيب وهي تكون كالغرف المفتوحة تربط بين بيتين ويكون فيها أماكن للجلوس في الظل ويتخللها الهواء البارد، ولاسيما تلك القريبة من بساتين النخيل، وكنت ألاحظ على هذه البقرة أو تلك بعض الحشرات الصغيرة العالقة على أثدائها، وكانت نفسي تتقزز لمرآها وأتألم لهذه البقرة العجفاء لاعتقادي أنها تتأذى من وجودها، ولاسيما في المكان الحساس وبكثرة، وعرفت بعد ذلك أن هذه الحشرات تعرف باسم القراد، وأعتقد أنه ينشأ من تواجد هذه الأبقار في أماكن غير نظيفة، وعندما انتقلنا لمدينة الرياض وكانت وقتها مدينة وادعة صغيرة قليلة الأحياء، وكنت أرى بعضاً من هذه الأبقار والأغنام مطلقة الصراح تتجول في أزقة حلة القصمان وغيرها من حارات الرياض القديمة فتأكل ما تجده في أزقة هذه الحارات وعندما بدأ الناس يستعملون الاسمنت لبناء العمائر البسيطة والمساكن القديمة وبدأ الناس حتى في استعماله في البيوت الطينية كانت هذه الابقار والاغنام تجد بعضاً من أكياسه التي تذروها الرياح، وكان الجزارون يستفيدون منه بوضع قليل من اللحم الذي يشتريه منهم بعض ممن لديهم الملاءة المالية، علماً بأن هذا اللحم كان يوزن بالوزنة وليس الكيلو، والوزنة أكثر من الكيلو فمنهم من يشتري ربعا أو نصف وزنة أو وزنة كاملة غالباً ما تكون من لحم هروش الإبل (أي عجائز الإبل التي لم يعد فيها شفع ولا نفع) وكانت بعض أبقار الرياض التي تتمخطر في أزقة المدينة تأكل مما تجده ملى في هذه الأزقة فيكون لحمها وحليبها بنكهة الإسمنت.
انطوت صفحة سنوات تلك الأيام وتم شق طرق فسيحة معبدة وازداد عدد السيارات، حيث كنا في تلك الأزمان نرى عربات تجرها الحمير يركب فيها غير الميسورين وكبار السن من الناس بفئتيهم، وغالباً ما تشاهد معهم ربطات البرسيم عائدين بها عند الغروب إلى بيوتهم الطينية المتواضعة لإطعام أغنامهم أوإن كان لديهم بقرة أو حمار، وكانت هناك أيضاً عربات تجرها الحمير مركب عليها برميل إما لبيع الماء أوبيع الغاز للطبخ أو الإنارة أو لدفايات الغاز في الشتاء أو لإشعال الحطب للطبخ أو عمل القهوة والشاي والحليب، وكان صاحب العربة ينادي بأعلى صوته قاز.. قاز، وبعضهم يضع أجراسا في رقبة حماره ليشعر زبائنه بوصول القطار (أعني حمار بائع الغاز).
تبدلت أحوال الناس بسرعة كبيرة وعم الكهرباء الشوارع والبيوت والمساجد والمدارس والمستشفيات، وتوسعت مدينة الرياض في كل الاتجاهات وكثرة الأسواق وازدادت الحركة التجارية، ثم قبل ثلاثين عاماً بدأت تنتشر الشركات الزراعية الكبرى وجلبت أبقار الجرسي من هولندا وغيرها من البلدان الأوروبية، وانتشرت مصانع الألبان حيث إن البقرة الواحدة تدر عشرات اللترات في الحلبة الواحدة، وتعطي جلستين إلى ثلاث خلال الأربع وعشرين ساعة، وأصاب الكمد والحزن أبقارنا المغلوبة على أمرها فأبقار الجرسي كل بقرة تحمل رقماً معيناً وتتغذى تغذية صحية جيدة، وتوفر لها الأعلاف والمراعي الخصبة والنظافة التامة وتبريد الأجواء، وبالتالي لا تستطيع حشرة القراد أن تعشعش على أثدائها وتتوالد وتتكاثر فيها، بقي أن تعرف أننا نشهد اليوم أقردة من نوع آخر تتكاثر في فضائنا الفسيح، وتدخل بيوتنا بدون استئذان وتصم آذاننا بدجلها وفبركتها الإعلامية وتتجاوز قدرتها وقدرة منشئيها لتعبث وتتلاعب وتفبرك ما تشاء من أخبار كاذبة ومواد مدسوسة لتتلاعب بمشاعر مشاهديها، فيصدقونها وهي بهذا أشبه ما تكون بالقردان التي كانت تتعنقد على أثداء تلك الأبقار تنهش فيها وتزعجها، ولكنها أضعف من أن تقضي على البقرة؟؟.