د. جاسر الحربش
في رابع أيام العيد شاهدت الفيلم الأمريكي المشهور، العازف المنفرد (The soloist)، ليس للمرة الأولى بل للمرة الثالثة. بعض الأفلام لا تمسح من الذاكرة ولا يستطيع المستعرض للقنوات الفضائية تجاهلها إلى عروض أخرى.
رغم عمقها النفسي (بطل متشرد مصاب بالفصام) والاجتماعي (صحفي قلق يبحث عن قصص جديدة) ومجتمع فضائحي (مجتمع المشردين والمدمنين في لوس أنجلوس)، لم تكن القصة هي المحرض الأول على تكرار مشاهدتي للفيلم، بل ذلك الشغف بالوتر والنغم الذي يركز عليه الفيلم، وقدرة عجائب الوتر على التغلغل في أعماق متشرد مصاب بالفصام، بحيث تبقيه راضيًا بما هو فيه متمسك بالحياة، رغم البؤس الاجتماعي المغموس فيه بالكامل.
أعترف بأنني لا أتذوق ولم أحس يومًا بما يسمى المعزوفات الكلاسيكية الراقية، رغم الرغبة والمحاولات.
لم استطع حتى الآن الانسجام لا مع السمفونيات ولا السوناتات، لا الأركسترالية ولا المعزوفات الأفرادية.
أعتبر ذلك عجزًا في ذائقتي الفنية وأعترف به عندما ألاحظ الانتشار العالمي الواسع لموسيقى باخ وشتراوس وبرامس وبيتهوفن وهايدن وكورساكوف، ليس في الحضارة الأوروبية التي أنتجتها فقط.
في الصين والهند، وهما نصف العالم السكاني يعودون أطفالهم على الاستماع للموسيقى الكلاسيكية ثم يلتقطون المواهب لتقديمها في المسابقات العالمية.
هذا الاهتمام في بلدان الحضارات الشرقية العريقة بالإنتاج الكلاسيكي للحضارة الغربية يكفي لإقناعي بوجود محتوى إنساني نوعي مشترك، لكنني لم استطع شخصيًا الإحساس والاستمتاع به حتى الآن.
كل أصوات الأجسام صدى ما عدا الوتر، فصوته نغم، ووتران في الحنجرة البشرية لا تكفي لكل أنغام الحياة، لذلك يستمر الإنسان في البحث عن أوتار جديدة للحصول على أنغام جديدة.
لا أدري متى قرأت هذا الكلام، ولكن كان ذلك قبل عشرات السنين وما زال يتردد في الذاكرة.
أكثر ما كان يشدني في فيلم العازف المنفرد ذلك الشغف الذي يظهر على الممثل المصاب بالفصام، احتضانه للآلة الوترية ووضع خده على صندوقها ثم مغادرته إلى عالم آخر أثناء العزف في سباحة روحية تأملية.
الطفلة الصينية أو اليابانية أو الكوبية ذات الخمسة أعوام، عندما تمتصها موهبتها بالكامل أثناء العزف، لا بد من افتراض حدوث شيء روحي لها، مثلما يحدث لذلك الرجل المفصوم ولكنه لا يحدث معي أثناء المشاهدة والسماع.
مع الوقت وكثرة التساؤل عرفت لماذا؟
لأن بيني وبين الأنغام الوترية حاجزًا تربويًا أحكم حولي منذ الطفولة.
أعتقد أن هذه هي الحالة السائدة في البيئة العربية التقليدية.
الربابة والعود آلتان وتريتان في الحضارة العربية، الأولى للعزف المنفرد وحيدًا في الصحراء والثانية للرقص والغناء الصاخب في الأعراس والحفلات.
التأمل العميق واستحضار الرياح والأنواء والبراكين وعصف الروح، ذلك ما يزعم المتذوقون للأنغام الوترية الكلاسيكية أنهم يشعرون به.
هل بيننا أحد يشعر بهذه الأحاسيس، أم أن الحاجز التربوي عميق وشامل؟
سؤال أخير: هل محاولة التحليق التأملي مع المعزوفات الوترية الكلاسيكية تغريب، بينما التحليق على مقعد وثير في الدرجة الأولى على طائرة غربية بقيادة قبطان غربي ليس تغريبًا كذلك؟