محمد سليمان العنقري
تمر الأسواق المالية وأسواق السلع العالمية بفترة تراجعات حادة لا يمكن وصفها إلا بإنهيارات مستمرة بدأت الشرارة من السوق المالي الصيني وفي أسواق السلع من النفط منذ شهور ولم تصمد بقية الأسواق طويلا فقد انجرفت نحو الهبوط الحاد وبفترة قصيرة التي نعيشها حاليا واذا كان لبعض الأسواق ما يبرر هذا الهبوط كالصين التي بدأ يتباطأ نموها الاقتصادي وكذلك اتجاهها لتطوير سوقها المالي وتحرير سعر صرف عملتها تدريجيا فإن الأسواق الأمريكية لها ايضا ظروف خاصة بها كتوقف برنامج التيسير الكمي الذي ضخم أسعار الأصول والاتجاه أيضا لأول رفع لاسعار الفائدة منذ عشر سنوات بخلاف منطقة اليورو التي تعالج مشاكل مديونية دولها إلا أن كل هذه المعطيات تعد مراحل تحول وانتقال لسياسات نقدية ومالية مختلفة عن ما تم بعد الازمة المالية العالمية قبل سبعة أعوام.
إلا أن ما حدث بالسوق المالي المحلي لا يمكن ربطه بالمطلق بالحدث الدولي فمنذ العام 2006م شهد السوق انهيارات وتصحيحات عديدة في فترة زمنية تعد قصيرة لا يفترض أن تتكرر فيها بهذه الحدة فالتصحيح يعد أمرا طبيعيا بحركة الاسواق وهو عامل صحي لتصحيح الأسعار وجذب السيولة لكن بشرط أن يبقى ضمن نسب معقولة وعلى فترة زمنية مناسبة غير أن الهبوط الحاد الذي يشهده السوق بمتوسط كل عامين مرة تقريبا لا يعتبر ظاهرة صحية وتستدعي الوقوف عندها لمعالجتها فالسوق الأمريكي منذ ستة أعوام وهو يشهد صعود كبير وبالتالي يصبح التصحيح مع التحولات بسياسات الفيدرالي الأمريكي منطقيا إذ ارتفع مؤشر داو جونز باكثر من 150 بالمئة وحقق أرقاما تاريخية وتبعته بقية المؤشرات وحتى بالصين وأوروبا لم تكن بعيدة عن تلك المكاسب بينما السوق المالي المحلي منذ انهيار 2006 لم يصل بأعلى مستوياته إلا لحدود 11900نقطة وكان ذلك عام 2008 م بينما كان قد حقق ما يقارب 21 ألف نقطة بأعلى مستوى قبل أن يعكس اتجاهه قبل تسعة أعوام أي أنه لم يعوض نصف خسائره كمؤشر رغم أن الوضع الاقتصادي للمملكة كان ومازال قويا.
وفي الأسواق يصف المنظرين السوق المالي بأنه قائد الاقتصاد كونه يعكس اتجاهه بالنمو أو التباطئ ويسبقه بفترة تقدر بحوالي ستة أشهر بأي اتجاه ويوصف السوق كذلك بأنه مرآة الاقتصاد باعتبار أن القطاعات الاقتصادية تمثل فيه وتكون بحسب حجمها بالاقتصاد وكذلك نشاطها من خلال الشركات المدرجة وكذلك السندات والصكوك بحيث يكون معبرا عن طبيعة ووضع كل اقتصاد نظرا لأن الأسواق المالية تعد القناة الرئيسية بالاقتصادات التي تبحث عن النمو المستدام وتفعيل وظيفته التمويلية والادخارية لتنشيط اقتصاداتها ولذلك نجد أنهم ومنذ عقود التفتوا إلى حماية الأسواق المالية من الانهيارات لتقليل احتمال حدوثها وتباعد ذلك زمنيا قدر المستطاع لأنه لا يمكن منعها إلا أن الإجراءات التي تتبع ذات الديمومة بالأداء الفعال تبقي الأسواق محصنة لحد كبير بخلاف أن لديهم إجراءات سريعة وفعالة تتبع في حال حدث الانهيار.
وإذا كانت الهيئات التنظيمية للأسواق موجودة بكل الدول ويقابلها هيئة السوق المالية لدينا وتلعب دورا إشرافيا ورقابيا وتنظيميا إلا أنها بذات الوقت ليست مسئولة عن اكثر من ذلك فلا تسمع إلا نادرا تصريحات أو بيانات من هذه الهيئات تختص بأداء السوق من حيث حركته بينما من يتولى هذا الدور هي البنوك المركزية ووزارات الخزانة أو المالية بحسب المسمى بكل دولة وكذلك إلى حد معين وزارات التجارة بجوانب ليست مباشرة وكذلك الجهات المسئولة عن الإحصاء والمعلومات، وقد يكون من الإنصاف القول بأن التجربة المحلية باسواق المال تعد قصيرة قياسا بعمر وتجربة أسواق مالية كبرى تخطى عمر بعضها المئة عام لكن تطور العلوم والنظريات التي تستخدم بأسواق المال يلغي إلى حد معين الحاجة للمرور بكامل تجربة من سبقنا بهذه الصناعة الحيوية.
فالهبوط الحاد الذي يشهده السوق المالي حاليا لا يعكس واقع الاقتصاد ولا ينطبق عليه مايبرر هبوطه بهذه الحدة عمليا وعلميا بل نابع من خلل بالإجراءات التي تتبع لتحصين الأسواق.
فحماية الأسواق من الانهيارات تتطلب إفصاحا مستمرا من الجهات المعنية بالشأن الاقتصادي نظرا لما هذه الإفصاحات من دور حيوي لتقييم الوضع الاقتصادي الذي يعكسه السوق المالي مباشرة فتجد بالدول المتقدمة التي نشترك معها بعضوية مجموعة العشرين لا يمر أسبوع إلا وتظهر بيانات وتصريحات وأرقام ومعلومات تضع المستثمرين بتلك بالأسواق امام الواقع الذي يخدمهم باتخاذ قراراتهم نظرا لحساسية الأسواق وسرعة التعامل فيها بينما لا نجد مثل هذه الكثافة من المعلومات تصب أسبوعيا وشهريا في السوق بحيث تظهر البيانات بشكل دوري قصير توضح الحركة الاقتصادية وكذلك تتعامل مع المتغيرات بايضاح السياسات المتبعة وهل طرأ عليها أي تغيير إضافة إلى أنه لا بد من تمرير الإحصاءات والمعلومات عن الاقتصاد عبر موقع السوق المالية كمعدلات النمو الربعية وإحصاءات البطالة وحجم إنفاق الفرد وأن توضع مؤشرات عديدة تقيس كل ما له علاقة بالاقتصاد وله تاثيرات كبيرة من بينها ما يؤثر على السوق المالي شريطة أن تكون هذه المعلومات أمام أعين المتعاملين بالسوق وأن تحظى بانتشار وتغطية كما هو معمول به بالأسواق الكبرى.
إن الإجراءات التي اتبعتها دول العالم التي سبقتنا بالصناعة المالية ليست بالصعبة أو المستحيلة لكنها أرادت من خلالها أن تحيط المتعاملين والسوق بكل أطرافه بكامل المعلومات المهمة بشكل دوري حتى تبدد الإشاعات وترفع من مستوى الشفافية لأن جوهر ذلك هو تحسين ( جودة القرار للمستثمر ) كونه الأساس بحركة السوق وهو يعكس بقراره نظرته للاقتصاد وليس لمستوى التشريعات التي تحكم عمل السوق فهي أمر مختلف لأن المستثمر يضخ أمواله بالاقتصاد عبر السوق وهو بذلك شريك بالتنمية وعامل أساسي مؤثر فيها ولذلك فان حماية قراره بالإجراءات التي تعتمد بزخم كبير بضخ المعلومات بالسوق هو ما يحسن من قراره ويبقي الأسواق محمية من الانهيارات المتكررة بخلاف ما يتبع من سياسات لدفع عجلة النمو وهذا ما نحتاجه بالسوق المالي المحلي.
لا يكفي أن تصدر تصريحات وتطمينات كل عدة أشهر أو إحصاءات لا تربط بالسوق المالي مباشرة لأن حركة السوق سريعة والتعامل فيه يومي مما يتطلب إعادة النظر بالأدوات والإجراءات التي تحمي السوق والتي تقع جلها على الجهات الرئيسية المعنية بالشأن الاقتصادي والتنموي كوزارات المالية والاقتصاد من خلال مصلحة الإحصاءات والتجارة بتطوير نظام الشركات ومؤسسة النقد العربي السعودي فالسوق المالي المحلي يغلب عليه تداول الأفراد والمعلومات فيه محدودة والإشاعات تتمكن منه بسرعة لأن العمل المؤسسي مازال غير مؤثر في تعاملاته قياسا بحجم الأفراد وتأثيرهم.