داعيتان يحذّران عبر «الجزيرة» من استخدام التهكّم والسخرية في الخطاب الدعوي ">
الرياض - خاص لـ«الجزيرة»:
يلجأ بعض الدعاة والوعاظ في نصحهم للآخرين إلى أسلوب التهكّم والسّخرية تارة، وأسلوب التقريع وتسفيه الآخرين أمام الناس دون مراعاة لشعور من يحتاج إلى نصح وتوجيه تارة أخرى.
فما أثر استخدام مثل هذه الأساليب على تقبّل الآخرين لذلك، ومالطريقة المثلى التي يمكن أن يقوم بها الدعاة والمصلحون في نصح المخالفين.. كان ذلك ما طرحناه على اثنين من المتخصصين في الدعوة تحدّثا عن هذا السلوك والتصرفات المنفّرة.
أبجديات الخطاب
بدايةً فصّل د. محمود بن محمد المختار الشنقيطي الداعية بالمدينة المنورة الحديث في هذا الأمر بالتالي:
أولاً: يمكن القول ابتداءً، بأن التهكم وهو: إخراجُ الكلامِ والألفاظ عما وُضعتْ له أصلاً بهدف النيل سلْبا من مقولةٍ أو فكرةٍ أو معتقدٍ أو شخصٍ ما، فيحوّل الكلام والحديث إلى مسارِ الهزْل والضحك والسخرية والاستهزاء والتوبيخ والتقريع وغيرها، عن مساره الأصلي، وهو هداية الخلق وإصلاح دين الناس ومعاشهم.
فهذه المصطلحات اليوم، التي صارتْ تُستعملُ لمجرّد الإضحاك والتبكيت واللوم والتنفير واحتقار الناس، لا شك أنها لا تُقبل أبداً في أبجديات خطاب الداعية، ولا خطاب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولا درس المعلم، ولا تعامل إمام المسجد وغيرهم من أصحاب الولايات الدينية الشرعية، خاصة مع المسلمين اليوم، لكثرة الجهل وقلة الدعاة وشدّة وطْأة الباطل ووسائل أهله وتزيينهم الشر للناس، وليس لها وجودٌ بين أغلب الدعاة - والحمدُ لله - ولا في قواميسهم ولا أساليبهم مع جميع المدعوين خاصة القريبين من الخير، الجاهلين الحق، المنخدعين بسراب الشهوات والشبهات، وهم أغلب من تُوجه لهم الدعوةُ إلى الله اليوم؛ لأنها تنافى أسس الدعوة إلى الله، وتحْبيبِ الحقّ للخلق، وتقريبهم من الخير ورد الشاردين البعيدين إلى دين الله تعالى.
نعم.. قد تَصدر على جهةٍ مذمومةٍ من بعض الداعين الحريصين؛ لكونهم مبتدئين في الدعوة أو بعضِ كبار السن وعوام المتنسكين المتعبدين، ولكنها خلافُ البصيرة التي أمر الله بالدعوة بها، وتقديم الدعوة في وعائها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (108) سورة يوسف.
ثم كيف يَقبل الداعيةُ وضعَ وتقديمَ دعوتِه في قالبِ هذه المصطلحات؟!، والداعية يعلم أن من أهم أسس الدعوة: الرحمة، والشفقة في الخطاب الدعْوي {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159) سورة آل عمران، ومن أبجديات الدعوة والدعاة {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (125) سورة النحل {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.. إلخ.
ثانياً: يمكن أيضاً أن تُستخدم هذه المصطلحات التّهكّمُ وهو: صرفٌ للكلام عمّا وضع له في سياق آخر، يمكن استعماله كأسلوب بليغ مع المعاندين والمنافقين والضالين الناكبين عن صراط الله وسبيله المستقيم، بعد إقامة الحجة عليهم ومكابرتهم، فيكون في أسلوب التهكم والسخرية بهم أسلوبُ ترهيبٍ بليغ، يهزُّ كيانَ هذا المعاند المتكبر على الحق، كمثل قول الله تبارك وتعالى، لفرعون هذه الأمة أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (49) سورة الدخان، فتقريع هذا الطاغية على ماكان يدعيه من العزّة والكرامة بغير حق، يعد أسلوباً بلاغياً راقياً، وحينما يقرأه المؤمن يشعرُ باستعلاءٍ إيماني وعزّةٍ ونُصْرة، ولهذا الأسلوب أثرٌ كبير في النقد، والإصلاح، وحل المشكلات، والأزمات الاجتماعية، وتنمية المواهب الفكرية والأدبية، وهو استخدام له جانبه المشرق الذي يهدف إلى الإصلاح والتهذيب والدعوة إلى نبذ كل ما لا يليق بالإنسان الذي كرمه الله وفضله، وبالشريعة والعقل جمّله وكمّله، إذ لو تدبرنا أسلوب التهكم والسخرية في الوحي، كتاباً وسنةً لوجدنها خرجت عن سياق القذْع وسقَط الألفاظ، وتنزّهتْ عن العبث واللهو وإرادة الإضحاك، إلى السموّ في غرضها ومنه قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (138) سورة النساء فالتبشيرُ عادةً يكون في الخير لا في الشر، ويكون بالنعمة لا بالهلاك!
ولكنه أسلوبُ التهكم والسخرية بصنفٍ من البشر، عرفوا الحق فأظهروا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبُهم.
ومنه قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} النّزل الذي يُعد للضيف لكنه في حق الكافرين الجاحدين نزلٌ من النار والعياذ بالله.
ومنه قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} من دخان جهنّم الأسود.
وفي السنة أيضا قولُه عليه الصلاة والسلام: (مَن كذَبَ عليّ متعمدا فليتبوّأْ مقعدَه من النار).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: «تبوّأ الرجلُ المكان إذا اتّخذه سكنا، وهو أمرٌ بمعنى الخَبر، أو بمعنى التهديد أو بمعنى التهكّم».
ولا شك أن لكل مقام مقالا، وأن الخطاب الدعوي كائنٌ بشريٌ، يتنوع بحسب المقام ومقتضى الظرف، وقد جعل الله لك شيئا قدراً.
ولا شك أن الأسلوب الأول في التهكم والسخرية الذي خرج إلى هدف الاحتقار والإضحاك أنه محرم شرعاً وطبعا، وأنه منفرٌ للناس، وصدٌّ عن سبيل الله ودعوته ودينه، وأن الأسلوب الثاني مشروعٌ لأنه من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويخرّج عليه ما يصممه بعضهم من مقاطع فيديو وفوتوشوب وتمثيل لما عليه بعض أهل البدعة مثل الرافضة وفيها تهكّم على معتقداتهم الباطلة، وتحذير من إسفافات عقولهم المخالفة للكتاب والسنة.
الأسوة الحسنة
ويذكر الشيخ محمد بن عبد العزيز المطرودي الداعية بمنطقة نجران أنّه تواترَ عنه عليه الصلاة والسَّلام أنَّه لم يلقَ أحداً في وجهه بما يكره؛ مع كون دعوته في مجتمعٍ مُشركٍ يناصبه العداء، ويمكرُ به الليل والنهار، فكيف بمن يقسو على إخوانهِ المسلمين، ويُبغِضُ الحق لنفوسهم بسُوءِ خُلُقِه، فمقامُ الأخلاقِ أصلٌ في الدَّعوة إلى الله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب، كما أنَّ منشأ الخطأ عند بعض النَّاصحين عدمُ التفريق بين مقام الدَّاعي، ومقام الحاكم، فمقام الداعي الدعوةُ بالتي هي أحسن، والصبرُ على الأذى، أما الحاكم فمقامه أوسعُ من ذلك ولذلك تفصيلات يضيق المقال عنها، وهي مبذولة في مضانها من كتب الفقهاء.
ومادةُ نَصَحَ في اللغة العربية تدل على الصَّفاء، والخلاص من الشوائب، والنقاء، وبالتالي فليس لائقاً بهذا المصطلح أنْ يشوبه سوءُ سلوكٍ ممن ينصحُ النَّاس، ويباشرُ دعوتهم!.
وليس خافياً أنَّ الداعي إلى النَّصيحة هو مقامُ الأخوة الإسلامية والتي هي أثرٌ من آثار الإيمان بالله، أخرجَ مسلمٌ بسنده عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ).
وحقُّ أي شخصٍ في النَّصيحة لا يسقط استحقاق الآخرين للأسلوب الحكيم، والتعامل النَّبيل معهم، مهما كانت مقاماتهم
ومكانتهم الاجتماعية.
ويكون العبء عظيماً إذا كان النَّاصح معروفاً بعلم ودعوة، ذلك أنَّ منهاجَ الأنبياء والمرسلين كان الحكمة، والموعظة الحسنة، والبعد عن اللجاجة والتَّبرم الذي يقوضُ النصيحة، لتَعْلَقَ مكانها الأحقاد، والتَّوجس، والقلق، والتردد في قبول الحق.
ومن أراد نشر الفضيلة فعليه أن يلتزم بأصولها، وقواعدها، ومقاصدها، فإن النفوس جبلت على إرخاء السمع لمن عاملها باحترام وأدب؛ وعلى النُفرة ممن يحاول التقليل من شأنها، والحطَّ من قدرها بأي وجهٍ كان، تأمل قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (159) سورة آل عمران، ومن خلال هذه الآية الكريمة ندرك أنَّ الفظاظةَ والغلظة لا تليقُ بمن يقتفي آثار الأنبياء، وأن الخطأ والتقصير طبع البشر، فأمرَ الله بالعفو الذي لا يتبعه محاسبة بأي وجه كان، وإنما هو عفو يمحو الماضي فكأنه لم يكن، واتبع ذلك بالاستغفار لهم لأنَّ الدعاء يؤلفُ النُّفوس، أما المشاورة فتجعل للإنسان اعتبارا عقليا واجتماعياً، كما أنَّ التعبيرَ بلفظ الجمع {لاَنفَضُّواْ} يدل على خطورة المجازفة بجعل الحق والنَّصيحة ثمناً لسوءِ خُلُقِ الناصح، إذ تثور النفس بدوافعها المختلفة فترفض الحق وتأباه لهذا السوء في تقديمه وبيانه، ويزداد الأمر سوءاً عندما يكون الرفض جماعياً كما عبرت الآية، فيكون من الصعوبة إعادة الحق لنصابه نظراً لتباين الناس في الفهم، ووجود حالة من الاختلاف والتشاحن الذي يجب أن تخلو منه أساليب النُّصاح والمربين.
أسلوب التفكير
ويستطرد المطرودي قائلاً: من كمال الناصح أنْ يملك حجة وبرهاناً، وأخلاقا بالغة في الحسن غايته، والنقص في أحدهما يعود بالخلل على الحق وقبوله، وإن كان لا يؤثر على ذات الحق وأصله، وإنما دخل النقص على كثيرٍ من النَّاس في رد الحق إما بحسنِ خُلُقٍ صاحبه ضعفُ حجةٍ وبيان، أو رفض حق شابه سوء خلق وتعسف للناس.
وإنَّ الله جعل لنفسه صفات الجلال، والكمال، والجمال، ونحن نردد كل يوم: الله، الرَّحمن، الرَّحيم، السَّلام، وبعد كل صلاةٍ نقول: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام»، فهل وعى من يكرر الأسماء والصفات الشريفة معنى الرحمة، والسلام المطلق؛ في لسانه، ويده، وخواطره، ووجدانه، وروحه، وتعاملاته مع النَّاس، ومع الحياة.
إنَّ القضية تكمن في أسلوب التفكير قبل أيَّ شيئ، فمن استوعب مقاصد أسماء الله الحسنى، وصفاته العلا، ومنهاج الأنبياء والرُّسل في تعاملهم مع أقوامهم، ولينِ خطابهم، فإنَّ تفكيره سيقود طبعه وسلوكه نحو خُلُقٍ فضيل.
لقد رأيتُ آباء وأمهات، يهينون أولادهم - وهم لا يشعرون - بسوء فعلهم، لأنَّ أسلوب تفكيرهم ورؤيتهم عن التربية والنَّصيحة تقودهم بطريقة تلقائية نحو هذا السلوك الفض، مما يوجد تراكماً نفسياً في نفوس الأولاد يجعلهم عرضةً للإخفاقِ والفشل، والتَّوتر، والقلق، ولقد أجاد الدكتور جون جراي في كتابه (الأطفال من الجنة) بتعرية هذا التفكير الأعوج، حيثُ جعل بعضهم التَّوبيخ والإهانة، والتَّحقير، والعنفَ اللفظي أسلوباً تربوياً؛ العجيب في الأمر أنَّ من يمارس هذا الأسلوب يغضب وتثور نفسه عندما يعامل بنفس الأسلوب!
إنَّ سلوك المرء في أيَّ شيءٍ يكشفُ أسلوبَ تفكيره، ونظرته للأمور بشكل لا لَبْسَ فيه ولا غَبَش، فما من فعلٍ إلا وهو نتيجةٌ لطريقة تفكيرٍ محددةٍ في العقل تَظْهَرُ على السُّلوك بشكلٍ تلقائي.
ولابن رجب رسالةٌ نفيسة بعنوان: «الفرق بين النصيحة والتعيير»، ومما قاله: «إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريضٍ لا تصريح، إلا ألا يفهم المنصوح، فإذا تعديت هذه الوجوه فأنتَ ظالمٌ لا ناصح»، لأنَّ حظَّ النفس، وكوامن الطبع التي لم تخضع لتفكير سليم تنحرف بالنصيحة لتصبح نهباً لدوافع نفسية، وعنصرية، توغر النفوس وتجعلها تأبى الحقَّ وترفضه.
إنَّ التقليل من احترام المنصوح، والتهكم به والسخرية منه؛ سهام منطلقةٌ تعود إلى نحر من يمارسها، بنفرةِ الناس منه، وعزلته الشعورية، ووحدته الاجتماعية، فالنَّاس يكثرون على من طاب طبعه، وحَسُنَ خُلُقه، ولانتْ عريكته.
الثمرة الكبرى
ويضيف المطرودي أن الرفقُ يتصدر المفاهيم الدعويةِ وأصولها؛ فهو أخذٌ للأمورِ بأحسنِ وجوهها، وأيسرِ مسالكها، وهو رأسُ الحكمة، ودليلُ كمالِ العقل، وقوةِ الشخصية، ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهرِ الرُّشد، بل هو ثمرةٌ كبرى من ثمارِ التدينِ الصحيح، فاللائق بمن يتعامل مع الحجاج أن تكون طباعه كريمة وبعيدة عن العسف والازدراء والقسوة لفظاً ومعنىً.
عن جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن الله - عز وجل - لَيعطِي على الرِّفقِ ما لا يعطي على الْخَرَق «أي: الْحُمقِ»، وإذا أحبَّ الله عبدًا أعطاه الرفق، وما كانَ أهلُ بيتٍ يُحرَمونَ الرفق إلا حُرِمُوا الخيرَ كلَّه»، رواه الطبراني بإسناد جيد، ورواه مسلم وأبو داود مختصرا.
فالرفق صفحةٌ من صفحاتِ الأخلاقِ الحسنة، تؤكدُ أنه لا يلتزمُ بالرفقِ إلا من عرفَ الإسلامَ تمامَ المعرفة، فالرفقُ إيمانٌ وكمال، والقسوةُ غلظةٌ وجفاء.
وأخرج الترمذي بإسنادٍ حسن عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «حُرِّمَ على النارِ كُلُّ هينٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناس»، فالعسرَ والغلظة والفظاظة كثيراً ما يدعو إليها قلةُ الفقه في الدين، والجهلُ بمقاصد الشرع، وأصولِ الملةِ وضعفِ العلم، وقد يدعو إليه دوافعُ من هوى النفوس، والعنصرية التي تطيح بقيمة الإنسان إلى درجة منحطة من التفكير.
فالناصح إما أن يملأ جيوبك بالهدايا، وهي الكلام الطَّيب، والتعامل الحسن، أو يلقي عليك جثةً عفنة بسوء خلقه، وقبح طبعه، ورعونة أسلوبه كما قال شوقي:
آفةُ النُّصحِ أنْ يكون لجاجا وأذى النُّصحِ أنْ يكونَ جهارا
قال الفُضيل: «المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعيِّر»، قال ابن رجب معلقاً: «فهذا الذي ذكره الفُضيل من علامات النصح، وهو أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان»، لأنَّ غاية النصيحة قبول الحق، ورضا النَّفس وطواعيتها له، وليس المقصود من النصيحة مجرد إثبات الخطأ، والاعتراف به كما يظن بعض الجهلة، ولذا قال ابن حزم: «لا تنصح على شرط القبول».
ومع كون فرعون قد طغى طغياناً عظيماً لا يخفى على أحد، ونازع الله في خصائصه، فقد كانت وصية الله لكليمه موسى وأخيه هارون في غاية الوضوح، كما قال تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وكان في علم الله الأزلي أنه لا يؤمن، ومع ذلك كان اللين وأسلوب الرحمة وصية الله لكليمه لأن النصيحة داعيها الرحمة، والرغبة بالإصلاح، ولا يتحقق ذلك إلا «بفقه النفس»، وهو مصطلح يعبر به عن مجموعة من الخصائص العقلية، والمعرفية، والنفسية، والوجدانية، تجعل الناصح في أفضل حالاته الإنسانية؛ التي تؤهله وتشجعه على بذل النصح والتماس أظرف الوسائل كي تقع النصيحة في أفضل مواقعها، أما مجرد المبادرة وإطلاق اللسان بالكلام كيف ما اتفق وقصر الأمر على الشجاعة فهذا تتفوق فيه السباع والوحوش!