إن هذا القرآن العظيم يتسع لجميع الأفكار والتفسيرات ما دامت تحت ظلال النضج والتوازن في التعاطي معها. إضافة إلى كونها لا تحل حراماً ولا تحرًم حلالاً. فيجب على كل مسلم أن يعمل عقله وفكره في معاني هذا الكتاب العظيم، والتي لا تعارض النص الصحيح والفطرة السوية السليمة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}؟. واختيار حبر هذه الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى (فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) حين خرج ذات مرة إلى السوق فرأى طفلاً يحاصر النمل بأصبعه ويقول «ولات» ففهم معنى هذه الكلمة والمقصود من ورائها دلالة على تتبع مظان تفسير هذه الآيات.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فحينما نتأمل فعل أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل في أنهما يرفعان القواعد من البيت، فمن المعلوم أن القواعد في البناء إنما تكون في الأسفل، فهي لا ترى إذا تم بنيان الشيء. فالذي يرفع هو البناء المنصوب على القواعد، فقول ربنا {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} إشارة إلى القصد من وضع شاهد يُعلِمُ بشيء, فكان رفع القواعد بشيء يراد أن يُرى, لكن الظرف المكاني الذي رُفع فيه البيت من المحال أن يرى من خلاله، فهو في وسط الوادي، ومحاط بالجبال من كل جهة أقبلت عليه، فلو كان المقصد أن يرى عياناً لأمرهم الله أن يبنيا الكعبة فوق رأس جبل النور أو جبل ثور أو غيرهما من جبال مكة. ثم إن الآية ختمت بقوله {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} مع أن حال نبينا إبراهيم وابنه إسماعيل في رفع القواعد من البيت يستدعي النظر لا السمع.
فلو أمعنت نظرك من نافذة قلبك على هذه الآية لوجدت أن الذي رفع هنا هو نداء التوحيد (لا إله إلا الله) فهو الذي بلغ الآفاق واستقر في القلوب والعقول. فتمثّل هذا النداء بتطبيق عملي في تجمع الناس باتجاه هذه القبلة من أنحاء المعمورة. فإذا الذي رفع هو أحد قواعد هذا البيت وهو توحيدهم لعبادة رب هذا البيت {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ويؤيّد هذا القول هو قول ربنا تبارك وتعالى (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فدل على أن الذي رفع هو شيء يسمع لا شيء يرى. وفي قوله تعالى {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} إشارة إلى المعنى اللطيف من كلمة تهوي أي كونها شديدة الإقبال، كالصخرة حينما تهوي من رأس الجبل فإنها تكون سريعة جداً ولا يستطيع أحد إيقافها أو اعتراض طريقها. ولهذا تجد المسلمين منتشرين في أقطار الأرض وقلوبهم معلّقة بأستار الكعبة. فإن الذي جعل أفئدتهم تتعلّق بهذا البناء هي القواعد التي رفعت من أجلها، وهي كلمة التوحيد فهي التي رآها الناس وتيقنت بها قلوبهم. وأما الكعبة فبعضهم لم يروها بأعينهم، بل رأوها في حال توجههم للصلاة إلى هذا البيت العتيق. ولو نظرت إلى الكرة الأرضية من الأعلى لوجدت أن المسلمين الموحّدين فيها يأخذون شكل الدائرة متجهين إلى المركز وهو الكعبة المشرفة. فكان رفع كلمة التوحيد دلالة واضحة وصلت إلى آفاق العالم أجمع. والرسول الكريم يقول في الحديث الصحيح (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر).
ولا يزال الذكر الحكيم حمال وجوه لمن تأمل وتفكر واستجاب لدعوة الله الخالدة {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي