أطلق وزير التجارة في أواخر عام 2014م التشغيل التجريبي للمنصة الإلكترونية «قوائم»؛ بعدما قامت وزارة التجارة بعمل دعاية بهدف التعريف بهذا البرنامج. وبالرغم من مزايا هذا النظام، إلا أن القرارات التي أعقبت الإعلان عن النظام وآليات التطبيق قد تسببت في خلق فوضى في سوق الخدمات المهنية.
ولا شك أن آليات التطبيق والقرارات المصاحبة لها من وزير التجارة هدفت في الأساس إلى تسريع تطبيق نظام «قوائم» من خلال تجاوز أي عقبات قد تواجهه، ولكن السؤال المهم هنا.. هل نجح نظام «قوائم» بالفعل في تذليل العقبات وتحقيق الأهداف التي انطلق من أجلها؟
لقد صرحت وزارة التجارة مراراً عن أهدافها من تطبيق نظام «قوائم» والتي كان من أبرزها القضاء على التلاعب والتزوير الحاصل في سوق الخدمات المهنية من خلال توحيد مصدر الحصول على البيانات المالية للمستفيدين سواء كانوا جهات حكومية مثل مصلحة الزكاة والدخل أو جهات تمويلية مثل البنوك. ولكن ما الذي حدث؟
في البداية، كان واضحاً تردد وزارة التجارة في تحديد مسؤولية إيداع القوائم المالية في منصة «قوائم». فالبديهي أنَّ كل منشأة تكون المسؤولة عن إيداع قوائمها المالية ثم يقوم المحاسب القانوني الذي قام بمراجعة تلك القوائم بالمصادقة عليها، إلا أن وزارة التجارة أدركت لاحقاً أنه بالرغم من كونها تملك صلاحية الزام الشركات بنظام «قوائم»، إلا أنه لا سبيل لها لإلزام أصحاب المؤسسات الفردية - وهو القطاع الأكبر - مما يعني تهديداً مباشراً لنجاح هذا المشروع. فكيف تصرفت الوزارة لتجاوز هذه العقبة؟
قرر وزير التجارة تحميل المحاسب القانوني مسؤولية الإيداع، وقد تم منحه الصلاحية اللازمة لذلك حتى في حال رفض العميل. وفي السياق ذاته، رفضت الوزارة قيام المحاسب القانوني بطلب أتعاب إضافية مقابل إدخال وإيداع القوائم المالية للعملاء للعقود القائمة عن عام 2014م خوفاًً من أن يكون رفض العملاء للاتعاب الإضافية حجة للتهرب من الإيداع.
ولكن هل يا ترى التزمت مكاتب المحاسبة كافة بهذا التعميم؟ وهل ترتب على ذلك القضاء على ظاهرة تجارة الشنطة؟
من المهم قبل الإجابة على هذا السؤال أن ننبه هنا أن نظام «قوائم» واجه صعوبات أخرى تتعلق بتلبية متطلبات بعض الجهات التي كان من المقرر ربطها مع نظام «قوائم» مثل مصلحة الزكاة والدخل الأمر الذي أدى إلى رفض تلك الجهات الاعتماد على «قوائم». إضافة إلى أن بعض الجهات المستفيدة مثل البنوك لا تزال لا تعترف بـ «قوائم» كمصدر للبيانات المالية، لذلك فهي لا تزال تقبل القوائم الورقية، لذا فإن استمرار رفض هذه الجهات والتي تعد من الجهات الرئيسة المستفيدة من القوائم المالية يشكل تهديداً قد يحول دون نجاح هذا المشروع الرائد.
نعود لنحاول الإجابة على سؤالنا حول ردة فعل المكاتب وتجار الشنطة حيال موضوع الإيداع، ما الذي حدث في الواقع العملي؟ وكيف انعكست هذه الظروف على سوق الخدمات المهنية؟
خلافاً للتوقعات، يمكن القول إن الشريحة الأكثر تضرراً من تطبيق برنامج «قوائم» حتى تاريخه هي مكاتب المحاسبة النزيهة ذات الحجم المتوسط والصغير.
وسبب ذلك أن غالب عملاء هذه المكاتب هم من فئة المؤسسات الفردية التي لا تملك وزارة التجارة سلطة مباشرة عليهم وهو الأمر الذي أدى إلى رفض كثير من هذه المؤسسات إيداع قوائمها المالية لأسباب تتعلق إما بهاجس الخوف من تسرب البيانات لمنافسين أو للتهرب الضريبي أو الزكوي أو بسبب الخوف من تعارض هذه القوائم مع قوائم أخرى تم إصدارها للمنشأة نفسها عن الفترة نفسها.
وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت كثيراً من تلك المؤسسات لرفض إيداع قوائمها المالية، فإن المهم هنا أن وزارة التجارة من خلال استخدام سلطتها أقحمت المحاسب القانوني النزية في خلافات وصراعات قانونية ومهنية مع عملائه الأمر الذي أدى لتحول كثير من هؤلاء العملاء لمكاتب أخرى لم تلتزم بنظام الإيداع.
وإحقاقاً للحق، فإنه من الناحية القانونية لا يحق لأي جهة مهما كانت الإلزام بتطبيق أي قانون أو قرار بأثر رجعي، الأمر الذي وقعت فيه وزارة التجارة حينما تسرعت بإلزام المحاسبين القانونيين بإيداع القوائم المالية ليتضمن هذا الإلزام المؤسسات الفردية التي تم التعاقد معها قبل صدور القرار.
ومن الطبيعي أنه حينما يتم التعسف والتسرع في تطبيق أي نظام فإنه غالباً ما يأتي بنتائج عكسية، فنحن نرى أن مكاتب المحاسبة غير النزيهة وتجار الشنطة والذين تجاهلوا قرارات الوزارة في ضرورة إيداع كافة القوائم المالية المدققة منها، حققوا مكاسب مادية ضخمة فقط منذ بدء تطبيق نظام «قوائم» بسبب استمرار قيام مصلحة الزكاة والدخل والبنوك في قبول القوائم المالية الورقية وتجاهلهم لمنصة «قوائم» الأمر الذي أدى إلى وقوع أسوء نتيجة ممكنة وهي تحول عدد كبير من عملاء مكاتب المحاسبة النزيهة للحصول على الخدمات المهنية من المكاتب الأخرى أو تجار الشنطة بأقل الأسعار هروباً من شبح إيداع القوائم.
إضافة إلى ما تقدم، فقد كشف تطبيق نظام قوائم قيام عدد كبير من المنشآت في السابق بالتعاقد مع أكثر من محاسب قانوني لاعتماد أكثر من قوائم مالية للمنشأة الواحدة للفترة ذاتها بحيث تكون أحدها «حقيقية» لتلبية حاجات المنشأة الداخلية والأخرى «غير حقيقية» بهدف التهرب الزكوي والضريبي، أو لتلبية شروط الحصول على تسهيلات أو قروض. ولكن السؤال المهم هنا.. كيف كانت ردة الفعل لتلك المنشآت بعد تطبيق نظام قوائم؟
ما حدث هنا هو أن غالبية هذه المنشآت قررت إيقاف إصدار القوائم المالية الحقيقية - والتي عادة ما تقوم بها المكاتب النزيهة - والاكتفاء فقط بإيداع القوائم المالية التي خضعت لعمليات التجميل أو برامج الرشاقة بواسطة تجار الشنطة ومكاتب الختم.
وجدير بالذكر أن تطبيق نظام «قوائم» لم يؤثر بصورة جوهرية على نشاط المكاتب الكبيرة، والسبب في ذلك هو الرقابة الشديدة المفروضة من هيئة سوق المال على عملاء هؤلاء المكاتب والذين عادة ما يكونون من الشركات المساهمة أو الهيئات الحكومية مما يحول دون لجوئهم إلى برامج الرشاقة والتجميل التي يحلو لكثير من المنشآت العائلية والفردية القيام بها.
خلاصة القول أن برنامج «قوائم» لا يزال فكرة رائعة نابعة من حاجة السوق لمحاربة تجار الشنطة ومكاتب الختم إلا أن تطبيقه بالطريقة والأسلوب المتسرع أدى إلى نتائج عكسية تتمثل في تعاظم حصص تجار الشنطة ومكاتب الختم من سوق الخدمات المهنية على حساب المكاتب النزيهة ناهيكم عن ارتفاع أتعاب مكاتب الختم وتجار الشنطة دون ارتفاع مصاحب للجودة.
لذا فإن الحد الأدنى من الإجراءات الواجب اتخاذها في هذه الحالة هو أن تقوم وزارة التجارة بعقد اجتماع فوري مع محافظ مؤسسة النقد ومدير مصلحة الزكاة والدخل ومدير وكالة تصنيف المقاولين وأمين الهيئة العامة للاستثمار يصدرون فيه بياناً مشتركاً بإيقاف قبول القوائم الورقية واعتماد المنصة الإلكترونية «قوائم» كمصدر وحيد لجميع الجهات.
ويجب التأكيد أنه لا تعارض بين هذا القرار وبين الإجراءات والنماذج الخاصة التي تقوم بها كل جهة لمراجعيها، وإنما المقصود هو إيقاف ظاهرة القوائم المالية الورقية والزام كافة المتعاملين بالإيداع في قوائم قبل إنهاء إجراءاتهم.
والعجيب هنا، أنه بالرغم من سهولة إصدار قرار بإشتراط إيداع القوائم المالية في نظام «قوائم» لقبول الإقرارات الزكوية والضريبية - على سبيل المثال - إلا أن مصلحة الزكاة والدخل لا تزال تصر على قبول الميزانيات عبر موقعها! وتتجاهل وجود برنامج «قوائم».
وختاماً فإنه يجب على وزارة التجارة الحذر من عواقب ومغبة استمرارها في إلزام المحاسبين القانونيين بالإيداع الإلكتروني دون التوصل لاتفاق مع مصلحة الزكاة والدخل والبنوك ووكالة تصنيف المقاولين باعتماد منصة «قوائم» كمصدر وحيد للقوائم المالية للمنشآت العاملة في المملكة في ظل استمرار صدور القوائم الورقية، إما من مكاتب الختم أو من تجار الشنطة أو حتى من بعض المكاتب التي تحايلت للهروب من الإيداع حفاظاً على عملائها.
والمشكلة هنا أنه حتى لو عزمت وزارة التجارة وهيئة المحاسبين على ملاحقة تجار الشنطة ومكاتب الختم والضرب بيد من حديد، فسوف تصل غالباً إلى طريق مسدود نظراً لأن كافة الأطراف - في العادة - ستتبرأ من الميزانية الورقية فور بدأ التحقيقات بما في ذلك المكتب المصدر بحجة التزوير، وحينها سوف تجد هيئة المحاسبين القانونيين نفسها أمام قضية خاسرة تتطلب تعاوناً كبيراً بين محققين وخبراء من جهات عدة.
لهذا السبب فإن الفشل في توحيد مصدر الحصول على القوائم المالية من الجهات المستفيدة سيعني بالضرورة فشلاً في مشروع «قوائم» من جهة، وانتكاسةً خطيرة للحالة الصحية للخدمات المهنية من جهة أخرى.
وبالرغم مما تقدم، فإنني متفائل - إن شاء الله- بصدور قرار توحيد مصدر الحصول على القوائم المالية بين كل الجهات، والذي أتوقع أن يقضي على ظاهرة تجارة الشنطة التي تعتمد على عنصر التزوير، ولكن سيبقى التحدي الأكبر والأخطر وهو الرقابة على جودة الخدمات المهنية وفرض وتطبيق العقوبات الرادعة مما سيعني استمرار ممارسات مكاتب الختم حتى بعد برنامج «قوائم» ما لم يتم تطبيق برنامج فحص مكثف وعقوبات رادعة.
بقي أن أقول، إن انتشار تجارة الشنطة في سوق الخدمات المهنية هو أوضح من أن يحتاج إلى خبراء وفاحصين لاكتشافه، لذا فإن من أهم مزايا نظام «قوائم» في حال ربطه مع مصلحة الزكاة والدخل والبنوك ووكالة تصنيف المقاولين، هو كشف عدد التقارير التي تم توقيعها من كل محاسب قانوني سنوياً.
وكما أن البعرة تدل على البعير، فإن هذه البيانات إضافة إلى بيانات التأمينات الاجتماعية، والبيانات المرفوعة سنوياً لهيئة المحاسبين القانونيين ستدل الفاحصين على مكاتب المحاسبة التي لا تلتزم بالجودة.
ودمتم بخير..
- طارق محمد الشباني
@tmash388