د. هلال محمد العسكر ">
هناك من يعتقد أن التقنية تجمد الإبداع في قالب ونمط واحد ولا تعززه، وهو اعتقاد لا دليل عليه، بل العكس هو الصحيح - في رأيي - إِذْ إن التقنية خصوصاً في التعليم أسهمت كثيرا في تطوير أساليب التعليم التقليدية، وتُعدُّ بمثابة أحد أهم العوامل الرئيسة في تغيير طبيعة التعليم، من حيث المكان والأسلوب وطرق التفكير والدور في العملية التعليمية، بل وغيرت نظرة الأنظمة التي كانت تعتمد على جهد المعلم فقط، إلى أن يكون المتعلم أو المتدرب هو الأساس في عملية التعليم، والمعلم أصبح مجرد مرشد وموجه، وأصبحت النظرة إلى التعليم نظرة إيجابية مؤثرة وليست سلبية، وأصبح للتقنية دور بارز في تنمية وتعزيز التفكير والإبداع وتفتيح إمكانات الفرد الإبداعية.
ويرى خبير التقنية «شبنغلر» أن هدف التقنية ليس هو صنع الأدوات والآلات في حد ذاتها. كما يرى أنه لا ينبغي فهم التقنية من خلال وظيفة الأداة، بل ينبغي اعتبار التقنية خطة حياة؛ أي أنها تلك الأهداف والمخططات والاستراتيجيات التي تقف وراء صنع الآلات. وهذا يعني أن التقنية فكر وسلوك هادف وليست مجرد موضوعات أو آلات خارجية، وأن علاقتي التفاعل والتداخل قويتان بين التقنية والإبداع، إِذْ يساهم كل منهما في إغناء الآخر وتطويره.
لا شك أن التقدم العلمي والتقني رهن بالتقدم الفكري، وليس المعرفي وحده، والتقدم الفكري هو حصيلة لأعمال العقل والتنور بما يؤدي إلى الإبداع والابتكار وحسن التدبير، إِذْ لم يعد دور الإِنسان في هذا العصر منحصراً على التكيف مع الواقع، وإنما يتعداه إلى ضرورة تغيير هذا الواقع بما يتناسب مع تطلعاته غير المحدودة، وهذا يقودنا إلى ضرورة استبدال مناهجنا التقليدية التلقينية التي تسعى إلى تكريس الواقع بما يتناسب وطموحات الإِنسان، وأن نعي الدور الكبير للتقنية في تنمية التفكير الإبداعي وتحفيز النقاش والحوار والنقد والتنظيم والمقارنة والتصنيف والتحليل، وغيرها من المهمات التي تساعد - أيضاً - على التفكير الابتكاري.
تشير بعض الدراسات إلى أن التعليم التقني يتيح المجال للمهمات ذات النهايات المفتوحة، مما يوفر الفرص لتكاثر أنماط التعلم، وتحقيق مستويات أفضل من الإنجاز؛ فكلما أصبح المتعلم خبيرا في استخدام تقنيات الحاسب - مثلا - كلما شعر المتعلم بحرية أكبر وأصبح أكثر إبداعاً، وكلما تنوعت مصادر المعلومات والخبرة تزداد قدرته الإبداعية، ودخول المتعلم في نشاط تقني مفيد يشعره بالحرية العقلية التي تساهم في تتبع الاتجاهات الإبداعية، حيث تنبع الأفكار من خلال وعيه وانشغاله بعدد من الأفكار، وسعيه لبرهنة صحتها، أو رفضها، وهو بذلك صاحب قرار، كما أن إنتاجه للمشروعات وانهماكه بما يدعوه إلى التميّز وإلى إيجاد كل ما هو جديد ومفيد، إنما هو ممارسة لعمليات ابتكاريه وإبداعية.
إن التقنية في التعليم وسيلة فاعلة، وذات أثر إيجابي في تنمية مهارات التفكير، خصوصاً مهارات التفكير الإبداعي، حيث أصبحت جزءاً لا ينفصل عن منظومة التعليم وأهدافه، وأصبح الاهتمام بتوظيفها في عمليات التعليم من الخطوط العريضة لاهتمامات مؤسسات التعليم الخاصة والحكومية في كل بلدان العالم، إِذْ إن المدارس التي اعتمدت في دول العالم على وسائل التقنية كان لطلابها النتائج الواضحة في الاختبارات ووسائل التقويم التي تقيس مدى ما حصله المتلقي من معلومات، بخلاف المدارس التقليدية التي تعتمد أصلاً على الطريقة التلقينية في اكتساب المعلومات، مما جعل طلابها غير قادرين على توظيفها والإفادة منها، لأن حفظها كان دون فهم، ولأنهم متلقون وليسوا ملقين، ولأنهم منفعلون وليسوا فاعلين، ولأن كثيرا من المواد مفروضة عليهم دون رغبة منهم فيها، ولأنهم صامتون في الصف لحفظ النظام؛ لا يناقشون ولا يحاورون ولا يتفاعلون، ولذلك ظهرت النتائج لمصلحة المدارس التي تستخدم التقنية، بسبب طبيعة الأنشطة والبرامج المقدمة، وما توفره من عناصر الإثارة والتشويق، حيث تتيح للمتعلم فرصاً لا حصر لها، تمكنه من التحول من نمط تفكير إلى آخر، ومن توسيع آفاق المعرفة من خلال الاطلاع والبحث والتقصي، كما تشجع المتعلم على حرية التعبير، وسعة الخيال وتنمي لديه الأصالة في عمليات التفكير، وتشجعه على المنافسة، والمبادرة وبذل الجهد لإيجاد حلول كثيرة ومناسبة وجديدة.
ختاما، نؤكد على حقيقة أن التعليم التقليدي «التلقيني» لن ينتج لنا - إن أنتج - إلا تفكيرا وإبداعا تقليديا، وأن التعليم التقني سينتج لنا تفكيرا وإبداعا تقنيا؛ وفي عصر التقنية لا مكان - إطلاقا - للتفكير والإبداع التقليدي الذي لا يعلِّم التفكير ولا الإبداع، وأن استخدام التقنية في التعليم لم يعد ترفيها وخياراً مطروحا للنقاش، بل ضرورة يفرضها العصر.
ولكي نواجه متطلبات العصر (عصر التقنية)، علينا أن نعيد النظر في هيكلة برامج التعليم والتعلم (مناهج وطرق ووسائل وأساليب وبيئة)، بحيث ترتكز على التقنية الحديثة التي تعزز التفكير الإبداعي والابتكاري، وتخلص أجيال المستقبل من آفة التعليم والتفكير التقليدي (المعلم والحفظ)، وتمكن من الوصول بالمجتمع لمصاف الدول المصنعة للتقنية لا المستهلكة.