اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن الإنسان بإمكانه أن يصطفي صديقه، ويستعدي عدوه، أما الجار فلا يد له فيما هو عليه من حال، والله هو الذي يصنعه، والبيئة لها دورها، والتوفيق من الله له نصيب، ولكل أمة وطن تعيش فيه، وليس بمقدورها اختيار جيرانها، والقضاء والقدر وما يتركه للإنسان من خيارات هو الذي يتحكم في
الأرض ومن عليها، ويهدي البشر إلى كيفية عمارتها، وبحسب ما يدينون به من دين، وما يتخلقون به من خلق تكون طبيعة التجاور فيها، ومَنْ أراد الله له خيرًا؛ اختار له جارًا يستنيم إليه ويأمن بوائقه، سواءً على مستوى الأشخاص أو الدول، ووجود إسرائيل في قلب الوطن العربي، ومجاورة إيران له من الشرق والشمال الشرقي، فتح عليه هذا الجوار بابًا من العذاب، وجعله ضحية للإرهاب، وجور الجوار التقى مع غدر بعض المحسوبين عليه من أبنائه الأشرار.
ونظرًا لما للبيئة من تأثير على مَنْ بداخلها ومَنْ حولها، وتأثرها بالداخل والجوار بما في ذلك العداوات التي قد تنتج عن التجاور، واعتبار مغارم الجوار أكثر من مغانمه؛ فإن المنطقة العربية مَنَّ الله عليها بالكثير من النعم، وتداعى لذلك بعض النقم، في مهد الديانات ومنطلق الرسالات، ومحضن المقدسات، والانتماءات المذهبية التي ينتمي إليها المسلمون مهما توحَّدت كلياتها؛ فإنه يوجد بين بعض جزئياتها نوع من التباينات والتجاذبات، دون القفز بها إلى التعصب والطائفية، وابتداع البدع ونشرها وتصديرها، كما يفعل النظام الإيراني الذي غالى في التشيع، وأدخل عليه الكثير من الخزعبلات والخرافات وامتطى المذهبية للوصول إلى أهداف جيوسياسية.
وبعض الثوابت في الإسلام كالجهاد والولاء والبراء يوحي ظاهرها لأهل الديانات الأخرى بإيحاءات بعيدة كل البعد عن باطنها، فالإسلام حفظ للإنسان إنسانيته، واهتم بحياته غاية الاهتمام، وحقق له من العدل الاجتماعي ما لم يحققه دين آخر، ولا قانون وضعي، ودعا إلى نبذ العنف بأنواعه وأشكاله، وحث على حسن المعاملة، وجعلها ركيزة أساسية من ركائز الدين، والتعامل مع الأمور خارج سياقها وليُّ أعناق الحقائق، يجعل مَنْ في قلبه مرض يتوجَّس خيفةً أو يختلق الخوف ليُلحق الأذى بالإسلام السني تجنِّيًا وظلمًا، خاصةً أولئك الذين لهم عداء موروث مع المسلمين عامةً والعرب خاصة، أو يسيئون فهم وسطية الإسلام وتسامحه، وصناعة تنظيم الدولة وتسليطه على المسلمين السنة، ما هو إلا دليل ساطع وبرهان قاطع على هذا الواقع المغلَّف بالتجنِّي والوقيعة والظلم. والوطن العربي علاوةً على احتضانه للمقدسات؛ يتميز بموقع استراتيجي، ويمتلك قوة اقتصادية وثقافية وحضارية، وموقعه ونفطه، وما تحويه أرضه من خيرات بقدر ما بوأه مكانة إقليمية ودولية، بقدر ما جعله محل لأطماع قوى الاستعمار وغزاة الديار على نحو جلب لهذا الوطن المتاعب من حيث توقع المكاسب، وقد قال الشاعر:
نور الهدى من أرضنا
في معظم الدنيا انتشر
ما أرضنا لو أنصفوا
إلا سماء للبشر
وانطلاقًا مما يحاك ضد الأمة العربية، واتهامها في دينها، ومحاولات التربص بها، وإبقاءها في دائرة الوصاية والابتزاز؛ فإن زراعة إسرائيل في قلب الوطن العربي قبل ما يقارب من قرن من الزمن ما هو إلا شاهد على نصب المصائد، وتبييت المكائد لهذه الأمة، وحرمانها من أخذ مكانها، والاستفادة من حركة زمانها، بالتحكم في مستقبلها، ومواصلة الضغوط عليها، على النحو الذي يخدم إسرائيل، ويضمن لها التفوق على محيطها العربي الذي يغرق في سوء صنيعه من جهة، وتفوق عدوه عليه من جهة أخرى، ورغم إحاطتها ببحر من العرب؛ فقد أضفى عليها موقعها مزايا عدة، وجعلها موضع اهتمام القوى الكبرى، بوصف هذا الموقع بمثابة حلقة وصل بين أهم البحار، ويمثل جسرًا بريًّا وبحريًّا وجويًّا يربط بين ثلاث قارات، واستطاعت تعويض صغر مساحتها بإصرارها على ألا يكون لها حدود سياسية معلنة، ولا قيود ديموغرافية مقننة، والهدف من عدم إعلان الحدود السياسية هو التوسع الجغرافي كلما سنحت الفرصة، كما تهدف من التحرر من القيود الديموغرافية إلى استيعاب القومية اليهودية، وهذا كله على حساب شعب فلسطين وجوارها العربي الذي يحيط بها من كل اتجاه، وبلغ بها تَغَوُّلها إلى الحد الذي أصبحت فيه غير مكترثة بهذا الجوار، وصار في مكنتها تحويل نقاط ضعفها أمام محيطها العربي إلى نقاط قوة، بفضل امتلاك ناصية عناصر القوة الوطنية والتفوق العسكري المطلق، والأخذ بأسباب التطور، وتعويض الكم بالكيف في جميع مجالات الحياة، وقد قال شمعون بيريز حول أهمية الموقع: «يجب أن يهتم العالم بنا لما تملكه أيدينا، فموقعنا الممتاز يعتبر قوة تمكننا من أن نسد الطريق في وجه القومية العربية، وأن نكون بديلًا لقناة السويس وأن نشكل ضغطًا على الدول المنتجة للبترول، وتلك التي تنقله».
وبالإضافة إلى الدعم المادي الذي تلقاه إسرائيل من أمريكا والقوى الغربية؛ فإن التأييد المعنوي الذي تحظى به من قبل هذه الدول؛ وفَّر لها حصانة سياسية ووقاية قانونية ضد المناوئين لها، وأصبح أمنها تهديدًا لأمن جيرانها، وعوامل بناء دولتها باتت معاول هدم للدول العربية، وتجاهُل القوى الغربية بقيادة أمريكا لما يحدث في دولة سوريا المجاورة لإسرائيل من أعمال إرهابية أدت إلى قتل البشر وتدمير المقر، وأصبحت معها هذه الدولة على وشك التحول إلى دولة فاشلة أو التقسيم، لو لم يكن هذا التجاهل المتعمد يخدم أمن إسرائيل ويدفع بها نحو تحقيق حلمها بإسرائيل الكبرى ما كان له أن يحصل.
والجوار الفارسي هو الآخر له تطلعاته التوسعية وطموحاته المستقبلية التي تنطلق من مذهب شيعي مصطنع، ونزعة شعوبية تستند إلى إرث حضاري فارسي عفا عليه الزمن، وتصطدم بمحيط من الدول ذات المذهب السني وأغلبها ينتمي إلى القومية العربية، وهي دول تتقاسم معها الحقائق الجيوسياسية، وتتعارض معها عرقيًّا ومذهبيًّا، وبين الطرفين موروث من العداء، وهذا الوضع يشكل مصدر قلق لإيران التي تحاول جاهدة التغلب عليه عن طريق نشر المذهب وتصدير الثورة، واتخاذ الطائفية جسرًا تعبر من خلاله نحو تأسيس نظام إقليمي يعطيها دورًا قياديًّا ومجالًا حيويًّا يوفر لها مزايا أيديولوجية وسياسية واقتصادية على المستوى الإقليمي والدولي.
وبحكم مشروعها لنشر المذهب وتصدير الثورة، والاتكاء على الطائفية وإحلالها محل الدولة؛ فإنها لا تعترف بوجود حدود لزحفها المذهبي ومدِّها الثوري، وحدودها الجغرافية ما هي إلا ركيزة تتوسع منها، كما يتضح من تمددها في جوارها العربي، مثلها مثل تنظيم الدولة وخلافته المعلن عنها، بل هي - إذا ما استمرت في نهجها - قد تكون أخطر على المنطقة من اليهود، وخطورتها تضاهي خطورة الخوارج ودعاة التكفير. وقد قال أحد السياسيين الإيرانيين يشير إلى طموحات إيران عند اندلاع الثورة الإيرانية: «لو كان في مقدورنا إقامة دولة في العراق شبيهة بدولة إيران؛ لأدى ذلك إلى تغيير موازين كل شيء وتحققت لنا الهيمنة على المنطقة والشرق الأوسط بأكمله».
ومن المؤسف في هذا الزمن أن ما كان حلمًا في حكم المحال آنذاك بالنسبة لإيران؛ أصبح اليوم حقيقةً قريبة المنال، وانعكس الوضع وحل محل تهديد أمن إيران من قبل جوارها العربي، أنها هي التي تهدد أمن العرب، وتعيث فسادًا في دولهم وتحتل بعض عواصمهم، والمواطن العربي الذي يعرف مآثر أمته ورصيدها من الأمجاد ومكانتها الحضارية في الماضي، وما تمتلكه في الحاضر من إمكانات بشرية وعسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية، وتصل بها الحال إلى هذا المستوى المهين والمخجل، لم يبق أمام هذا المواطن إلا أن يردد قول الشاعر:
ويا ليت شعري من نلوم ونشتكي
إذا أصبحت فينا الهداة تقصر
والواقع المتردي الذي تعيشه الشعوب العربية مرده إلى فساد بعض الأنظمة الحاكمة لهذه الشعوب وضعف الانتماء الديني لدى بعضهم وتخليهم عن انتمائهم القومي وتشرذمهم، ووجود إيران بجوارهم وإسرائيل بين ظهرانيهم وكلٌ من هاتين الدولتين لها أهدافها ومصالحها التي تسعى إلى تحقيقها، حتى لو تطلب الأمر إلى اتباع أساليب ملتوية واستخدام وسائل قذرة، بما في ذلك استخدام تنظيمات معينة للقيام بأعمال إرهابية في عدد من الدول العربية، كما هو الحال بالنسبة لتنظيم الدولة وحزب الله اللبناني والحركة الحوثية والحشد الشعبي وغيرها، والتنافس بين إيران وإسرائيل هو تنافس جيوسياسي على حساب الأمة العربية، وتصوير ما يحصل بينهما على أنه مؤدلج يوفر لكل منهما سلاحًا يرفعه في وجه الآخر، والمعارضة الخطابية يقابلها تعاون عملي وتخادم مصلحي، وحقيقة الأمر أن الدولتين تتقاسمان مصالح مشتركة، ولهما أهداف متبادلة ناتجة عما تدعيانه من وجود تهديدات تواجههما في المنطقة، وما تقدمانه من خدمات ظاهرة ومستترة للحليف الأمريكي، وموقف العالم تجاه تجاوزات هاتين الدولتين وتمردهما على الأعراف والقوانين الدولية ينطبق عليه قول الشاعر:
هم الناس لا يفضلون الوحوش
بغير التحيُّلِ للمقصد
فلا تتدين بغير الرياء
وغير النفاق فلا تعبد
وما اسطعت فاقطع يد المعتدىَ
عليه وقبِّل يد المعتدي
وهناك أذرع إيران في المنطقة العربية، تلك الأذرع التي جنت على أوطانها، وانفصلت عن أمتها، لمصلحة نظام الملالي، متخذةً من قتال أبناء جلدتها سبيلًا لإرضاء ملالي قم، دون أن يكون لها رادع من دينها، أو وازع من ضمائرها، وهذه الأذرع تمارس الإرهاب في حق أمتها، سواءً في صورته السرية أو المعلنة، وكلاهما وجهان لعملة واحدة مكتوب على أحد وجهيها قول علي بن أبي طالب: «أعظم الخيانة.. خيانة الأمة»، وعلى الوجه الآخر: «وأفظع الغش.. غش الأئمة».
وتنظيم (داعش) احتل رقمًا صعبًا في المعادلة الإرهابية، وبالغ في فظاعة ممارساته والاستخفاف بحياة أدواته، وجعل من هويته مادة للإثارة، وتوفر له مزايا لم تتوفر لغيره، وكان لها دور كبير لكشف رعاته، الذين ترك لهم الصانع الحقيقي مهمة رعايته، وهم إيران والنظام السوري والنظام العراقي، وهذا التنظيم لا يشك عاقل في أنه محصلة لسياسة أمريكا في المنطقة وصنيعة من صنائع وكالاتها الأمنية وأجهزتها الاستخباراتية، وحكومتها الخفية، وموقفهم من المكافحة كمن يعطي بيد ويأخذ باليد الأخرى، فهي ترعى رعاة الإرهاب من جهة، وتكافحهم من جهة ثانية، وتعريفها للإرهاب وأهدافها من إيجاده ومكافحته، وملف إيران النووي والقطبية الأحادية التي انفردت بها وعالمها الجديد، ونظرتها المستقبلية إلى شرق أوسط جديد، والثورات العربية، وما يعرف بالفوضى غير الأخلاقية، كل هذه العوامل تحكمت في مجريات الأحداث ودفعت إلى تبني الشيء ونقيضه، وينطبق عليها قول الشاعر:
إذا المرء أساء الصنيع
أحال على دهره ما صنع
ويستدل على أن هذا التنظيم صنيعة ظروف نشوءه وطبيعة اقترافاته، وتمدد أدواته والرسائل التي يرسلها من خلال عملياته، علاوةً على ما يمتلكه من إمكانات ويتوفر له من قدرات، خاصة تلك المهنية الفائقة والاحترافية العالية، سواءً أثناء القتال أو عند استخدام الشبكة العنكبوتية، والتعامل مع الأجهزة الذكية والدقيقة، بالشكل الذي تجلت فيه براعة التنظيم تقنيًّا، ومهارته إعلاميًّا، وكيفية نشوء هذا التنظيم، والمراحل التي مر بها حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، فيها ما يؤكد أنه يتخذ الشعار ويتدثر بالدثار لإخفاء ما وراء الستار، وأن اقترافاته تصب لمصلحة أطراف معينة، على حساب الطرف الذي يتخندق في خندقه وينتحل مذهبه، واستهدافاته مهما تلونت وتنوعت، يرجع مردودها النهائي إلى رعاته، ويقع ضررها على الذي تزيا بزيه واستخدم هويته، متذرعًا بذرائع لا يمكن قبولها؛ لفساد مدلولها وخبث مفعولها، والخلافة المعلنة للتنظيم التي تعتبر الدول أصنامًا والحدود بينها أوهامًا تنسجم مع سياسة الملالي لنشر المذهب وتصدير الثورة، كما تدل على الطموح التخريبي والسلوك الإرهابي اللذين يعتنقهما، ويلتقي فيهما الفكر التكفيري للخوارج، مع الفكر الصفوي الرافضي، والفكر الصهيوني العنصري.