قلنا في خاتمة الجزء السابق: إن الآلهة لم تكن غائبة في غالب فلسفات الصين، وهذا مؤكد بلا شك، فقد كان دورها كبيرًا في حياة الصينيين وطرق تفكيرهم، حيث امتد تعلقهم بها إلى درجة عجيبة، فتاريخهم القديم يروي لنا مثلاً أنهم من شدة تعلُّقهم بالآلهة أسقطوا بعض صفاتها على أنفسهم، أي نعتوا بها بعض العظماء والساسة والقادة، والتبرير دائمًا هو أنهم يستمدون سلطتهم من توكيلات إلهية، فهم يحكمون نيابة عن الخالق.
فأحياناً يكون إحلال الصفات الإلهية على الإنسان وهو حي، كوصفهم مثلاً من يقوم على الشؤون المالية بأنه (إله المال) وأحياناً - وهو الغالب - يكون ذلك بعد موت الإنسان المعظَّم عندهم، كما فعلوا - مثلاً - مع (الإله قوان) وهو من كبار قادتهم في العصر الذي يُعرف بعصر الممالك الثلاث، حيث قدّسه الناس تقديسًا عجيبًا بعد وفاته وجعلوه إلهاً لهم.
كما ارتبط (القبر) بكثير من المعتقدات الصينية، ومن ذلك مثلاً أنهم ربطوا بين القبور وحظوظ الناس أو أقدارهم، فالميت الذي يُدفن في المكان المناسب الذي يحدده المنجّمون أو الكهّان، تأتي حظوظ ورثته ونسله ممتازة، والعكس صحيح حين يدفن في مكان لا يناسب للدفن.
وقد انتشرتْ بينهم أساطير ومعتقدات وطقوس اجتماعية عقائدية غريبة أيضًا وبشكل كبير لافت للنظر، منها كمثال أن الرجال الشباب يذهبون بزوجاتهم إلى الأماكن الخضراء في فصل الربيع، لممارسة الجنس في أحضان المروج والطبيعة، والتعليل عندهم لذلك هو أنهم يعتقدون أن المضاجعة في هذا الوقت -الذي تخصب فيه الطبيعة وتعطي أجمل عطاء - يؤثر فيهم، فيخصبون هم أيضًا وينتجون أفضل الأبناء، بسبب معايشة الطبيعة جسديًا ونفسيًا، مما يساهم في دعم عقيدة (إحياء الكون) التي يؤمنون بها.
والحقيقة هي أن الفلسفات كثيرة في الصين، إلى حدٍ يصعب معه حصرها؛ ولكن المهم هو معرفة التيارات الكبرى الأبرز في الفلسفة الصينية، وأولها فلسفة «التاو» التي أشرنا لها في المقالة السابقة في معرض حديثنا عن الإنسان في الفلسفة الصينية.. وفلسفة التاو هذه تُعرَف أيضًا بالطاوية، وهي مدرسة فلسفية ترتبط كثيرًا بالقناعة والبساطة، والعمل على تحقيق السلام والرضا بعيدًا عن تعقيدات الحياة، حيث حثَّ كبيرها الذي تُنسب إليه الفيلسوف «كلاوتسه» على أن يعيش الإنسان الحياة البسيطة المتناسقة، لكي يصل إلى الراحة والرضا والسلام، فكان ينصح دائمًا بتجنب المراوغة والتحيذق الزائد، والطمع الشديد في الأرباح والمكاسب، وما شابه ذلك.
وتحذر هذه الفلسفة ورموزها كلاوتسه وغيره، من الأنانية، وتدعو دائمًا إلى تحجيم الرغبات الإنسانية الجامحة، فالإنسان البسيط القنوع هو الأقرب لتحقيق الاستقرار والسعادة عندهم؛ والعكس صحيح، بالنسبة للإنسان الطمّاع أو الذي يبالغ في حب المال والركض إليه؛ لأن مسلكه هذا لا يتسق مع الطبيعة حسب رؤية هذه الفلسفة.
الاتساق مع الطبيعة هو محور «الطاوية» في فهمي، حيث يرى كثير من فلاسفتها أن التصنّع الزائد والمبالغة في التعمّق في التعقيدات الحياتية المختلفة، لا يحقق الرضا والسلام للإنسان، وبالتالي ليس طريقاً سليمًا للحياة.. ومن هنا ظهرتْ عند بعض الطاويين فكرة «اعتزال الناس» والهروب منهم، تجنبًا لشرورهم وشرور الدنيا، فالخير والراحة عند كثير منهم، يكمن في العيش ببساطة بعيدًا عن صراعات البشر وأطماعهم ومشاكلهم وما ينتج عنها من مصائب وأخطار وأضرار.
إذن، بإمكاننا أن نختصر الكثير من الكلام، بالتأكيد على أن الفلسفة التاوية، ترى أن (الحياة المثالية) هي الحياة البسيطة، والحياة البسيطة ببساطة هي الحياة العادية، بمعنى أنها الحياة التي لا تسعى كثيرًا إلى الأرباح والمطامع وحظوظ النفس والأنانية والانغماس في تعقيدات الحياة، فالطاوية أو التاوية ترى أن الطبيعة هي معيار كلِّ الأشياء ومصدرها وليس الإنسان، حتى في قواعد (الحياة الإنسانية المثالية) فالتاويون يبحثون عن قواعد تلك الحياة في الطبيعة لا في الإنسان، ولذلك شددوا دائمًا على أن السعادة والراحة والرضا والسلام لن تتحقق للإنسان الذي يترك دوافع نفسه تنطلق بقوة بلا حدود، بل تتحقق للإنسان الذي يُلزم نفسه بالتوافق مع بساطة الطبيعة والتأقلم مع مسارها.
وكلمة (تاو) تعني الكون في أفضل ترجماتها، فالإنسان الباحث عن السلام والرضا والطمأنينة عليه أن يتبع طريق (التاو) أي طريق الكون، بمعنى أن يجتهد في الاندماج والتوحّد مع الكون ونظامه، ولا يتم ذلك إلا بهرب الإنسان من شرور نفسه وشرور الناس والدنيا.
فهذه الفلسفة ترى أن ألاعيب وأكاذيب وحيل البشر تُفضي إلى الشرِّ والتعاسة، وأن الجشع البشري والأطماع المختلفة هي السبب في كلِّ كوارث الإنسانية، سياسيًا واجتماعيًا وفي كلّ المجالات، فالفقر، والجوع، والحروب والمجازر، كلها تحصل بسبب الصراعات على السلطة والنفوذ والانتصار، وغيرها من الرغبات والمطامع الإنسانية في الثروات والأمجاد، سواء بالنسبة للحكام السيئين الذين يتصفون بتلك الصفات، أو غيرهم من الناس الذين يبالغون ويهتمون بتلك الرغبات المدمرة لهم ولغيرهم من الناس. ولذلك؛ أي لأجل سعادة الإنسانية على المستويين الفردي والجماعي، عملتْ الفلسفة التاوية على القضاء على كلِّ تلك النوازع والرغبات وتحجيمها إلى أقصى درجة ممكنة، وحثّ الناس على العكس، أي على الانسجام مع الطبيعة، من خلال البساطة، والقناعة، والهدوء، والسلام، والرضا، وتجنب الصراعات والمبالغات في التنافسات الربحية وغيرها من التنافسات والتعقيدات الضارة بهم. كما ينبغي التنبه إلى أن فلسفة «التاو» لها اعتقادات ثيولوجية واسعة النطاق، ومنظومة أفكار مغلّفة بغطاء ميثولوجي سميك، نتجتْ عنها ممارسات طقوسية كثيرة متعلقة بـ (الإله)، وأهم ما خرجتُ به من ذلك، أن كثيرًا منهم يؤمن بالله بوصفه حالاً في كل شيء، وهذا قريب من مذهب (الحلولية) المعروف لمن يدرس العقائد الإسلامية، ولكن الطاويين يعتقدون بوجود مبدأ أول سابق لوجود الله، وهذا المبدأ هو الأصل الذي جاء منه كلُّ شيء.
وفي المقابل نجد عند الصينيين مدرسة فلسفية قديمة أخرى، وهي «الكونفوشية»، فعلى النقيض من التاوية، التي وقفتْ موقفاً متصادمًا أو معارضًا لكثير من النواحي الحضارية والمدنية، وقفتْ الكونفوشية موقفًا إيجابيًا متوافقاً معاكسًا، ففلسفة كونفوشيوس ورفاقه - على عكس لاوتسو ورفاقه - فلسفة تنظر إلى الحياة المركبة المعقدة الموغلة في التطوّر والاندفاع نحو المدنية والتحضُّر والتنافس، باعتبارها الحياة المثالية الأصح والأنسب للإنسان.
يعتقد الكونفوشيون أن الخير والراحة الإنسانية لا ترتبط بالطبيعة فقط كما يقول التاويون، بل ترتبط بشكل أكبر بالإنسان نفسه، ومن هنا شدّدتْ الكونفوشية على (خير البشر الأخلاقي) باعتباره مفتاحاً للسعادة، فغالب ما جاء به فلاسفة هذه المدرسة يدور حول البشر ومجتمعاتهم وفضائلهم، وليس حول الطبيعة أو معرفة الطبيعة كما يظهر عند الطاويين.
الكونفوشية ببساطة، فلسفة تطرح هذا السؤال: كيف يُمكن تحقيق الخير والسعادة للإنسان?.. ثم تجيب عنه بأن الخير والسعادة موجودان بشكل أكبر في داخل الإنسان لا في الطبيعة وحدها، فالسعادة تنبع من (مبادئ الفعل الإنساني) التي يؤدي الالتزام بها إلى كل خير، ويتم العثور على هذه المبادئ في الإنسانية ذاتها، لا في خارجها. وهذه المبادئ هي التي جعلتْ من البشر مخلوقات إنسانية ثقافية مميزة عن غيرها من الكائنات والمخلوقات.
وسياسيًا كان كونفوشيوس مصلحًا اجتماعيًا، يرى أن معاناة ومتاعب الشعب تنبع من (السلطة الحاكمة الفاسدة) التي تسعى لمصلحة الحاكم ورفاهيته هو وحاشيته فقط، فهي تفتقد المبدأ الأخلاقي، ولذلك كان يدعو إلى الإصلاحات الاجتماعية، وأن تُدار الحكومة لمصلحة الناس جميعاً.. وقد شدد على أن ذلك يمكن القيام به، إذا كان أعضاء الحكومة صالحين، ويتميزون بأقصى قدر من الاستقامة الشخصية والحكمة، فالواجب عليهم عنده أن يتفهموا احتياجات الشعب، وأن يعملوا لتحقيق راحة وسعادة عامة الناس، بقدر اهتمامهم بتحقيق راحتهم ورفاهيتهم الشخصية الخاصة.. وألاحظ هنا شيئاً من التوافق بين كونفوشيوس وأفلاطون، وأعتقد أن الكثيرين يتفقون معي في ذلك، وليس هذا مقام التفصيل فيه، فقد أسهبتُ في الحديث عن أفلاطون وفلسفته، في سلسلة مقالات سابقة.
يعتقد كونفوشيوس وغيره من رفاقه أن ما يجعل البشر إنسانيين على نحو فريد هو كلمة (جين - Jen)، وهذه الكلمة هي السر الكبير في الطريق الكونفوشي.. فما معنى جين؟!
الإجابة هي أني وجدتُ معاني كثيرة ومتداخلة في عدّة مصادر؛ ولكن الجميل هو أن هذه المعاني يجمعها قاسم مشترك، فجميعها تدندن حول مترادفات متقاربة متجانسة، مثل: الفضيلة، وطيبة القلب، والأخلاق الحسنة، والمحبة، والخير... إلخ.
نتوقف هنا الآن، وسنواصل الحديث في مطلع الجزء القادم عن الكونفوشية، ثم نعرّج بإيجاز على عدد من المدارس والتوجهات الفلسفية الأخرى الأصغر والأقل انتشارًا وصيتاً من المدرستين السابقتين الكبيرتين الطاوية والكونفوشية.
- وائل القاسم