أهمية الكلمة في زمن الحرب ">
شعارات.. أناشيد.. صيحات.. بكلمات قليلة متناغمة, مكررة أحياناً ذات مفردات مقتضبة، لكن ذات معانٍ عميقة, بصوت مئات الرجال، وعلى دق الأقدام بالأرض تبدو لمن يسمعها تمتمات مخيفة لها قرع في القلب.. إنها طبول الكلمات كما طبول الحرب.. الشعارات في الحرب ليست شيئاً مستحدثاً، بل موجودة من زمن الجاهلية والإسلام والرومان والإغريق يستعينون بها في الأعمال الشّاقة كحفر الأرض وأعمال البناء والحروب، إن هذه الشعارات لها انعكاسات نفسية عظيمة لرفع حماسة الجنود ودفعهم باتجاه التفاني وشد العزيمة في القتال، كما أنها تسهم في إثارة الخوف لدى العدو عندما تقزّم صورته في سياق تجسيد الصورة البطولية للمقاتلين الذين من أجلهم وضعت هذه الأناشيد وأُلفت كلماتها، بمعنى أن الأناشيد في رسهما لصورة القتال تنتج دلالة مزدوجة تُعلي من شأن أبطالها وتصنع ملحميتهم وتحط من شأن أعدائها في رسم صورة كابوسية لنهاياتهم الحتمية في المشاهد الملحمية التي تسعى الأناشيد إلى صياغتها على نحو مدروس.
يروي لنا التاريخ أن الفرنسيين في عام 1792، بعيد انطلاق ثورتهم على لويس السادس عشر، تعرضوا للغزو من قبل الملكيات الأوربية الأخرى، وعلى رأسها بريطانيا والنمسا وبروسيا وهولندا، وتراجع الثوار الفرنسيون، واحتلت القوات المهاجمة بعض الأراضي الفرنسية.. ومع تزايد خطر القوات المهاجمة كانت الروح المعنوية للجنود الفرنسيين تنهار بشكل درامي فما كان من عمدة مدينة «ستراسبورغ» الفرنسية، الواقعة على نهر الراين في أقصى شرق فرنسا، والتي ستكون نقطة الاصطدام مع القوات الغازية، إلا أن طلب من الشاعر «روجيه دي ليل» أن يُؤلف نشيداً حماسياً يرفع من معنويات الجنود الفرنسيين المدافعين عن الراين.
ألّف «دي ليل» النشيد المطلوب في نفس اليوم مصوّراً اللحظة المفترضة لدخول القوات الغازية إلى فرنسا وكيف أن هذه القوات ستقتل فلذات أكباد الفرنسيين ونساءهم وتفرض شريعتها على الفرنسيين، وذلك في محاولة من «دي ليل» لتحفيز الفرنسيين على حمل السلاح في وجه الغزاة، وليرووا السهول الفرنسية من دماء البروسيين الغزاة.
فعلَ نشيد «دي ليل» فعله فوراً وسرعان ما بدأ المتطوعون الفرنسيون القادمون من مدينة مارسيليا بإنشاده وبدل أن تتحول «ستراسبورغ» لموطئ قدم للغزاة، عبر المتطوعون الفرنسيون نهر الراين، متقدمين شرقاً، وصولاً إلى مدينة فرانكفورت الألمانية.. ومنذ ذلك العام، اشتهر هذا النشيد الحماسي على أنه رفيق الجنود الفرنسيين وتحول لاحقاً إلى النشيد الوطني للجمهورية الفرنسية.
والشعارات التي يؤديها الجنود بحركات تتفاعل مع كلمات التفاخر والتّعالي وتضخيم (الأنا) وإضفاء صفات أسطورية خارقة عليها وتقزيم الآخر بصورة تُؤكد حتمية نهايته في حال المواجهة، وقد كان هذا النمط في إدارة الحروب مثمراً إلى الحدود التي يخبرنا فيها التاريخ عن تفوق أبطال وأقوام على خصومهم نتيجة ما يمتلكه هؤلاء الأبطال من حماسة وشجاعة أشعلتها الكلمة وما تمتلكه تلك الأقوام من قدرات بلاغية في التصوير قادرة على خلق منظومة من التخيلات التي تثير الرعب في نفس الخصوم العاجزين عن خلق منظومة مضادة لهذه التخيلات، ولربما لهذا السبب اقترنت الفروسية بالشعر والشجاعة والفصاحة والبلاغة في ذلك الوقت، مع وجود فرسان ليسوا بشعراء أو بلغاء لكن ذلك كان يُعد من العيوب في تلك الفترة. ومن أهم العوامل التي تساعد على حب الجنود لجماعاتهم ووحداتهم، طوابير الاستعراض، التي يشتركون فيها بأعلامهم الحربية، وبملابسهم العسكرية المميزة بشاراتها المختلفة، وبأناشيدهم العسكرية الخاصة بهم، بما يزيد في صلتهم وارتباطهم بهذه الصور الرمزية المعنوية للوحدة، التي ينتمون إليها، والتي تجعل الأفراد يُدافعون في المعركة عن عَلَم وحدتهم، ويعملون على أن يبقى دائماً مرفوعاً لا تدنسه الهزيمة.
- أحلام الفهمي