جمعتني أيام الدراسة منذ سنوات طويلة خارج لبنان بالسيد خليل صداقة استمرّت إلى يومنا هذا. كان خليل يسارياً متطرّفاً إلى أبعد الحدود، وشكَّلت الولايات المتحدة الأميركية في نظره العدو الامبريالي البغيض والوحش الضاري المفترس،
الذي يجب القضاء عليه بكل الوسائل، فقد كان يناقش ويجادل ويماحك حاشراً يساريته الغاضبة في كل أمر وكل موضوع، حتى حسبناه يوماً من ورثة مريدي الراحل «كارل ماركس» الأقربين، ومن ما تبقى من آثار «حوزة» المرحوم «لينين»!
بعد التخرج والعودة إلى لبنان، وعلى الرغم من تبدل الأوضاع العالمية والإقليمية والمحلية، بقي صاحبنا ثابتاً على موقفه الايديولوجي، لا بل ازداد اقتناعاً ويقيناً وتعصباً واندفاعاً، بأنّ هدف الأميركان الاستراتيجي – الجيوسياسي – الكولونيالي – الكمبرادوري، هو السعي الحثيث للقضاء على إرادة الشعوب وسلب حرياتها وثرواتها.
وحين دَهَمَت عالمنا العربي ما سُمّي بالربيع العربي، هَبَّ صاحبنا وانطلق مؤيّداً ومباركاً ومبشّراً بأن إرهاصات هذا الربيع ما هي إلاّ انتفاضات تاريخية شجاعة ضد الوجود الأميركي وسيطرته على بلادنا.
كان هذا الصديق اليساري يأتي كل صباح إلى المقهى الذي نرتاده يومياً، وذلك بعد قراءته للصحف واطّلاعه على نشرات الأخبار كافة، وقبل أن يرشف من فنجان القهوة يبدأ بعصبية ظاهرة بشتم الأميركان والسياسة الأميركية، ويلعن بأقذع العبارات «اليسارية» الشرسة كل الذين يقيمون علاقات سياسية أو دبلوماسية، أو اقتصادية، أو حتى ثقافية – تربوية – تعلمية مع الشيطان الأكبر أميركا! ويبدي تأييده بحماسة للأنظمة – حتى لو كانت ديكتاتورية – أو دينية، وذلك بسبب أنها ضد المخطط الجهنمي لسياسة بلاد العم سام!! أما الذين يقاومون تلك الأنظمة باللحم الحيّ فهم عملاء يائسين من صنيعة استخبارات C.I.A. ويخدمون أهدافها!!
منذ يومين – كالعادة جاء السيد خليل إلى المقهى بكامل أبّهته اليسارية وقمّة عنفوانه التمرّدي وغطرسته الإيديولوجية، وبيده ورقة مطويّة، وسرعان ما بدأ من دون مقدمات بهتك سنسفيل أميركا وأعوانها وأصدقائها في المنطقة العربية، والغريب أنه لم يأتِ يوماً ولو مواربة على ذكر من أطاح بالنظام الشيوعي – الذي يتبنّاه – في روسيا وسائر المنظومة الاشتراكية!! واستطرد مجلياً بقوله: لقد أصبحت هزيمة أميركا وشيكة وهي على حافة الانهيار وسيتكسّر جبروتها أمام إرادتنا...
في الواقع، إنني كنت ومنذ زمن طويل قد مللتُ من ثقل دمه وظلِّه، ومن «روتين» سرد مقولاته المتحجّرة التي لم تتغيّر ولم تتبدَّل أو تتطور، فأردت في تلك اللحظات أن أغيّر مجرى الحديث وسألته: خير إن شاء الله يا خليل... لوين مستعجل ورايح؟ أجابني بعد أن وقف متأهّباً للمغادرة بحيوية زائدة: معي ورقة إخراج قيد نسخة عن تذكرة هوية ابنتي، سأذهب لأترجمها إلى اللغة الانكليزية لدى ترجمان محلّف، لأرسلها لها، لأنها مستند رسمي مطلوب منها لتحصل على الجنسية الأميركية!!!
حينئذٍ، وبذهولٍ شديد قلت له: فعلاً.. يلعن أبو الأميركان!!!
- د. غازي قهوجي
kahwaji.ghazi@yahoo.com