لعل العنوان يطرح تساؤلاً أولياً عن استعمال «المبدأ» مع «الاستعمال اللغوي» مع أن كلمة «المبدأ» لا يمكن أن تكون واحدة، بل مبادئ متراكمة راسخة لإطار مبدئي عام! هناك أنماط لغوية تركيبية تتكرر دون وعي لأنها مبرمجة بيئياً منذ الصغر في «الاقتصاد السلوكي والمعرفة behavioral economics and cognitive»
كأن نعتاد في ثقافتنا العربية على أن نقول: الأول والأكبر والأعظم والأسبق... إلخ، أو كأن يغلب على الإيطالي بثقافته قوله: الأطعم والألذ والأعذب والأروع! أو كأن يغلب على الإنجليزي البريطاني استعماله للصفات بدقة في التعبير عن العواطف والمشاعر والمواقف، أو كأن يغلب على الإنجليزي الأمريكي في ثقافته: العولمة والفخر والاعتزاز بفهم الثقافات الأخرى بسطحية! أو أن يغلب على الصيني في ثقافته قوله: أظن ولا أدري وأعرف أو لا أعرف والتوقف كثيرًا في الحوار! وهذه ثقافة لغوية تكبر مع الأجيال-ربما-! وما تلك الأنماط شبه الثابتة والمتكررة بهذا الثبات إلا دليل على إطار ما يُسمى بـ: الاقتصاديات المعرفية السلوكية، فكيف يكون ذلك؟ دعونا نقف مع كلمة «اقتصاد» التي قد لا يدرك الكثير معناها الممتد الذي يجول في كل تفاصيلها مهما ارتبطت بأي كلمة أخرى، ولنفكر في معناها الممتد قبل أن نُكمل قراءة هذا المقال؟
إن معناها الممتد (الأساس) هو: أنماط التدوال بين أطراف المجتمع، والتداول هنا تفاعل وتشارك، ومصطلح economics ومقابله «اقتصاديات» هو ذاته تداول بين الأفراد والمجتمعات والعوالم في المال والأعمال والاتّجار، وبدخول هذه الكلمة على السلوك behaviour ومن ثمَّ على اللغة كما في language behaviour economics يتبلور لنا المفهوم له بشكل واضح بالقياس.
لك أن تتخيل مجتمعاً لغوياً لا يتداول اللغة كما يجب عمليًا وباحترافٍ ينعكس مع الأفعال حتى على أدنى المستويات كيف يكون مآله؟ بالطبع سيكون مآله مثل أي مال أو محل تجاري لا يحسن التداول مع العالم المستفيد! ليُجرّب كل واحد منا يعرف لغة غير العربية أن يجلس مع الآخر غير العربي، ويملي عليه أنماطه الاقتصادية السلوكية المعرفية اللغوية التي اعتاد عليها (بالنقل الحرفي) دون صدق واقعي في ورائها! هنا سيفشل- على الأرجح- من أول مرة في الحوار ولن يؤسس أدنى حبل تواصل حواري يمتد إلى حوارات أخرى. ودعونا نقف مع هذا الاتجاه اللغوي كونه منبثقاً من تجارب علمية لسانية في أوساط المخاطبة والحوار والكلام والاستكتاب، وهذا الاتجاه له مطلب بسيط مفاده: لا تقل ما تريد أن تقوله من الذات، بل قل ما يستلزم قوله للسياق.
كل ما قيل سابقا يُذكرنا بالنظرية النسبية اللغوية لسابير وورف Sapir-Whorf، فهذه النظرية سابقة لنظرية الاقتصاد السلوكي (اللغوي)، ووفقاً لتجارب عديدية أُجريت بعد هذه النظرية رأى الباحثون أن الناس يؤمنون بالأحداث التي توصف بشكل حيوي بحيوية استمراريتها وتكرارها، وينتشرون أكثر من غيرهم الذين لا يتبعون تلك الأحداث في الاقتصاد (التداول) السلوكي المعرفي اللغوي، وأغلبهم يكونون إما مشجعين لفريق كروي رياضي، أو متفاعلين مع شخصية إعلامية ذات أجندة ثابتة ومتكررة، أو محبين لفنان معين دون غيره، وكلهم بلا استثناء لم يعطوا لأنفسهم فسحة للنظر في غير ذلك وفحصه به، وهو الأمر الذي يجعل من الاقتصاد اللغوي السلوكي تنميطيًا!
تكاثرت تلك التجارب العديدة طوليا وخرجت بنتيجة تقول: يتلقى المجتمع اللغة التكرارية، وبمجرد هذا التلقي-أو التعرض-يكون على إثرها متأثرًا، وهنا أسأل سؤالاً واحداً؛ هل الثقافات الناجحة تتلقى تكراراً لغوياً ناجحًا لأن الاطراد المنطقي هو أن نجاح المجتمع يكمن في نجاح اقتصاده اللغوي السلوكي بالدرجة الأولى؟ الجواب: نعم! لأنها لو كانت على خلاف ذلك لتأثرت أوساط الاقتصاديات الأخرى من مال وأعمال وتجارة مجتمعية طبيعية لا تحتوي على تداول وممارسات إيجابية، وأبسط مثال لمن يدرك الإنجليزية أن يمر على كل قنوات الإنجليزية أو أن يرصد أكثر الكلمات تكراراً في التغريدات المكتوبة باللغة الإنجليزية، ولا يمكن أن يجد أي عربي عكس ذلك إلا إذا كان محملاً ببعض السيئ منها ويغلبها على الأكثرية دون أدنى فنية في التحليل الجاد.
لعل القارئ يتوقف هنا قليلاً ليحلل هذا السياق الاقتصادي السلوكي اللغوي؟! وهذه المعرفة الكلية للاقتصاد الكلي تجمع التحليل النمطي التقليدي للغة النمطية والبنيوية والتوليدية والوظيفية والتداخل اللغوي العلمي بين اللغة والمجتمع والنفس والتربية والتعليم، ولن تكون معرفة مثمرة إن لم تكن صادقة بالتدافع الصادق الواقعي اقتصادياً مثل كل قصص «الاقتصاد»، وهنا اسألوا المختصين عن الاقتصاد، وليس كل المختصين، بل أولئك الذين يجيدون كشف النوافع ويُوجِدُونه باللغة والسلوك معا أكثر من أولئك الذين ينتقدون بالسلبيات ويوقفون التداول على شريحة محددة بحدوده بلغة غير سلوكية بالإيجاب. كلنا يتمنى الاقتصاد المنعش مالاً وادخاراً، فكيف لا يُرجى الاقتصاد المنعش لغة وتواصلًا للعربية، وكثير منا يحتاج - فعلاً- إلى أن يتعلم لو شيئاً يسيراً من اللغة الاقتصادية السلوكية، وأن يجعلها مثل المال الذي يمتلكه، وألا يعبث بها جميعاً لأنها شريان المجتمع الأساس.
وبما أن ديننا الإسلامي قد أعطانا مقومات الحياة الأسّية، وترك لنا العقل واللغة لندبر ما لم يُفصل فيه أصلاً، فإن العقل واللغة معا يحتاجان إلى مبادئ وطنية تُكمّم بدراسة واقع اللغة المستعمل الآن على جميع الأصعدة، وتحليلها ومن ثمة وضع القوانين الخاصة بها. إن أي قانون شرعي يُوضع وفقاً لمصطلح canon (التقويم أو العصا) في جديده الخاص بمن يتناولونه بكيفيات مجتمعهم الخاص وبصورة استنباطية أو تقليدية سيتخلله النقض والاضطراب، لأن استنباط القانون لا يكون وفقاً لأمثلة ومعطيات مجتمعية عميقة التحليل وضخمة الحجم، ولأن تقليد القانون من المجتمعات الأخرى إسقاط عرف مجتمعي على عرف مجتمعي آخر مختلف عنه، وعليه فلا أجدى من الاستقراء القانوني، وبعض المجتمعات يتجنب تطبيق الاستقراء القانوني لأنه متعب ويحتاج إلى أدوات خاصة بها ودقيقة وطويلة الأجل!
ولأن اللغة مرآة المجتمع، وتكشف المجتمع، وهي هوية المجتمع، وهي بيت المجتمع، وهي أسرة المجتمع، وهي الفرد في المجتمع، فاللغة تحتاج إلى دراسة وتحليل خارجَ إطار (الحدس) أو (الظن) أو (العبث)، أو(الانحياز داخل اللغة) وهذه كلها إن لم تكن كما ينبغي أن تكون في اللغة السلوكية، فإنها ستُضيعُ واقع اللغة وواقعها الاقتصادي السلوكي اللغوي المطلوب والمحتوم لأجل النجاح المتكامل، أما خلاف ذلك فأظنه خارج نطاق تغطية (الاقتصاد السلوكي اللغوية والمعرفة) بشكل حتمي، وإن تحققت خيوط ذلك الاقتصاد على العموم يبدأ الاستعمال اللغوي المنعش لمبادئ وطننا الحبيب سلوكًا ومعرفةً، والخيوط هنا: فعلٌ لغوي سلوكي؛ وليس إعلانات ودعايات؛ لأن الإعلانات والدعايات دومًا خارج نطاق نظريات الاقتصاد الفاعلة.
وأخيرا: بما أن المجتمعات في لغاتها فذلك يعني أن هذا الشأن يخصها فقط، فما خصوصيات لغتنا الفاعلة والناجحة؟!
د. سلطان المجيول - أكاديمي بجامعة الملك سعود - مختص بالمدونات الحاسوبية