يوسف المحيميد
كل الأفكار العميقة لا تصل للإنسان بشكلها المجرد، ما لم تكن مصحوبة بالمشاعر والأحاسيس، فالفكرة حتى لو كانت عميقة وعظيمة، تبقى ميتة، يصعب أن تصل بشكلها الجاف والمجرد، دون أن يحييها شعور وحس شفاف، يوصلها إلى داخل الإنسان، وهذا ما يفعله الفن بشكل عام، سواء التشكيل، أو المسرح، أو الغناء، أو الدراما...إلخ.
راودتني تلك الهواجس حول الفنون، حينما تذكرت كيف كان الفن التشكيلي في مدارسنا عنصراً مهماً، وفي جميع مراحل التعليم العام، قبل أن ينحسر إلى مرحلتي الابتدائية والمتوسطة، وتُستبعد مادة التربية الفنية من المرحلة الثانوية، كما لو أننا لسنا بحاجة إلى تربية أجيالنا فنياً، وتهذيب شعورهم وسلوكهم أيضاً، وهذا انعكس حتى على هاتين المرحلتين، بالتعامل مع الفن التشكيلي والفنون الأخرى كالخزف والنحت والخط العربي وغيرها باستخفاف وتجاهل، ليتحول مدرسو ومدرسات هذا الفن الرائع إلى مجرد مراقبين ومراقبات، يحملون كشوف الحضور والغياب، في ظل غياب قسري، أو تغييب مقصود لهذه الفنون من نظامنا التعليمي!.
حينما أقول تغييب مقصود، فإني أعني ذلك تماماً، خاصة مع صعود تيار ما يسمى بالصحوة مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي، وهيمنة هؤلاء على التعليم، وعلى وزارة المعارف آنذاك، وشطب بعض الفنون كالمسرح، وتهميش بعضها الآخر كالرسم، فلم يعد المسرح المدرسي موجوداً، ولم يعد الفن التشكيلي كما كان في السبعينيات والثمانينيات، حينما كانت تُقام له المعارض الجماعية التشجيعية، وتتوفر له الأدوات واللوحات، تلك التجارب المبكرة التي قادها روّاد هذا الفن في البلاد، والمجددون فيه، مثل السليم واليحيا والرزيزاء والمنيف والدهام، ثم الربيق والموسى والحجيلان وغيرهم من الأسماء المهمة في نجد، تحديداً في منطقة الرياض. صحيح أن هذا التهميش للتربية الفنية في المدارس، وبقاء الفن التشكيلي محصوراً داخل جمعية الثقافة والفنون، يعوّضه الآن اهتمام القطاع الخاص بهذا الفن، من خلال قاعات الجاليري والصالات المختصة بتقديم التجارب التشكيلية، عبر المعارض الشخصية والجماعية، وهو أمر مهم أن نجد في الرياض العاصمة نحو عشر قاعات مختصة بعرض اللوحات والتجارب الجديدة في الفن، إلا أن ذلك لا يكفي لتربية المجتمع وتهذيب ذائقته، لأن ذلك لا يتجاوز أسوار هذه القاعات والجاليريات، بينما وجوده في قطاع التعليم العام، يعني تنشئة أجيال من المجتمع على الشغف بالفنون عامة، كالمسرح والفن التشكيلي والدراما والغناء وغيرها، وهو ما يجعل الإنسان أكثر تسامحاً وثقافة ووعياً، وأقل تشدداً وتطرفاً في الرأي، لا يمارس التهميش للآخر، ولا يستخدم الإقصاء في تعامله مع غيره.
لكي نحقق هذه المعادلة غير الصعبة، في صنع مجتمع مثقف ومتجدد ومتسامح ومحب للفن والجمال، علينا أن نعيد الفنون المسروقة من مدارسنا، نعيد قاعات الرسم والخط والنحت والخزف، نعيد المسرح المدرسي إلى مكانه، نعيد كل ما يشيع البهجة والفرح والحياة داخل أسوار مدارسنا العالية!.