شرحنا بتبسيط في نهاية الجزء السابق معنى كلمة (جين - Jen) شديدة الارتباط بالمدرسة الكونفوشية، وقلنا إنها كلمة السر الأساسية في الطريق الكونفوشي، وإن خلاصة معانيها تدور حول كلمات من قبيل: الفضيلة، وطيبة القلب، والأخلاق الحسنة، والمحبة، والخير.
ولهذا قرر كبار هذه المدرسة الفلسفية أن الكائن البشري الحق لا ينحرف أبدًا عن طريق «الجين»، ومن ينحرف عنه فهو شاذ لا يُعبِّر عن كمال ورقي الإنسانية.. والزبدة هنا أنه ظهر لي أن كثيرًا من أتباع الكونفوشية، يركزون على (قلب الإنسان) أكثر من تركيزهم على العقل، فطيبة القلب لها شأن كبير عندهم، فهي سمة إنسانية راقية ومميزة يولونها اهتمامًا فائقاً، باعتبارها أساسًا لكل العلاقات الإنسانية الناجحة المثالية.. ومن هنا جاءت كثير من أقوالهم حاثّة الإنسان على الاهتمام بقلبه وتطهيره من كلِّ ما يصرفه عن الطيبة المفترضة المأمولة، التي تصل - في نظرهم - بعظماء البشر إلى (التضحيات الشخصية) الكبيرة، في سبيل السمو بالإنسانية ورفع شأنها.
ويرى كونفوشيوس أن الإنسان الصالح المثالي عامة - وخصوصاً الحاكم أو صاحب المكانة الاجتماعية - يجب عليه إذا أراد أن يصلح مجتمعه أن يبدأ بتنظيم أسرته، وأول خطوة للتنظيم الإيجابي للأسرة، هي أن يبدأ الإنسان بتهذيب نفسه.
واهتمّتْ الكونفوشية أيضًا بالموسيقى اهتمامًا رائعًا، فتعليمها لكل الناس واجب وحق مشروع، فهي من عوامل رقي المجتمع وصلاحه عندهم.. كما تركّز اهتمامُ هذه المدرسة على الأخلاق والسياسة، أكثر من اهتمامها ببقية القضايا.
يرفض غالب فلاسفة الكونفوشية - وعلى رأسهم كونفيوش - الكثير من الأفكار الميتافيزيقية، ويرون أن ربط الإنسان وإشعاره وإحساسه بحاجته الدائمة إلى حماية ورعاية قوى خارجية توجد خلف نطاق الطبيعة وخارج إطار فعالية البشرية، يجعله إنسانًا مهزوزاً مهزومًا.. وهذا الموقف هو موقف مضاد تمامًا للفلسفة الطاوية السالفة الذكر، حيث يرتبط الطاويون بتلك القوى بقوّة، وبصور عديدة. أما كونفيوش، فقد استبدل هذا المسار بمسار آخر، فصرف نظره إلى فلسفة تجمع الأخلاق بالسياسة، في سبيل توجيه الناس اجتماعيًا ومعرفيًا إلى طريق حديث، بصورة تخلّصهم من مشاكلهم وأزماتهم.
لقد رفض كونفيوش أو كونفوشيوس أفكارًا ميتافيزيقية من قبيل فكرة الأشباح والأرواح التي تسيطر على العالم وحياة الإنسان تحديداً؛ ولكنه لم يرفض فكرة وجود الله بشكل مطلق، وفي المقابل لم يُظهر موقفاً مثبتاً لها بشكل صريح، وإنما جاءت إجاباته عائمة غامضة تدور بين النفي والإثبات.. والجميل في ذلك هو أن مواقفه من فكرة (الله) ظلّتْ قناعات خاصة، لم يقحمها في توجهه الفلسفي الواقعي الأخلاقي السياجتماعي.
فالأخلاق عند الكونفوشيين، تتجلّى في رؤية كونفوشيوس، الذي كان يجيب تلاميذه إذا سألوه عن الإنسان الأعلى أو الرجل المثالي، بإجابات تؤكد على أن المثالي الأعلى هو الذي يثقف نفسه بعناية ممزوجة بالاحترام، ليصبح حكيماً يجمع بين القداسة والفلسفة.. وللكمال الإنساني عند كونفوشيوس ثلاثة أركان، هي: الشجاعة، والذكاء، وحب الخير.
كما أن سعة الفكر، والقناعة بالرزق، والتأني والتريث قبل إصدار الأحكام والآراء، والحياد أثناء البحث عن المعرفة.. كلها أسس للكمال والمثالية عنده؛ بالإضافة إلى التهذيب الأخلاقي، والعطف على الناس، وبخاصة المساكين والضعفاء.
وأما نظرة الكونفوشيين للسياسة، فتظهر من خلال (واجبات الدولة) حيث قرر كونفوشيوس أن الحكومة الناجحة مطالبة بتحقيق ثلاثة أشياء رئيسة، هي أن يملك الناس الطعام الكافي لهم، وأن تكون ثقتهم في حكامهم كبيرة، وأن يكون استعداد الشعب العسكري مناسبًا، من حيث امتلاك العتاد الحربي وغيره.
كما أن الدولة المثالية الصالحة، لا تقوم بشكل صحيح في نظرهم، إلا إذا تحققتْ عوامل متعددة، أهمها أن تكون علاقات الشعب الخارجية محدودة قدر الإمكان؛ لأن كثرة العلاقات - في رأيهم - تفسد الشعب.. وأن يكون لديهم الاكتفاء الذاتي قدر الإمكان من المواد الغذائية وغيرها من الأساسيات، حتى لا يشنوا الحروب على غيرهم بحثاً عنها.. وأن تضع الدولة حدودًا لبطانة الملوك، فلا يتمادون في الترف والبذخ.. وأن توزع الثروة على الشعب توزيعاً عادلاً يلغي الفوارق الاجتماعية قدر المستطاع ويسعد كلَّ الناس.. وأن تهتم الدولة جدًا بالتعليم، وتنمية المواهب، والموسيقى، ونشر الأخلاق الطيبة بين عامة الناس، وبخاصة بين الناشئة.
وبعد كلِّ ما سبق: لا بد أن نشير إلى وجود مدارس وتوجهات فلسفية أخرى أصغر، وأقل انتشارًا وصيتاً من المدرستين السابقتين الكبيرتين الطاوية والكونفوشية، ومنها مثلاً الفلسفة الموهية، وغالب أفكارها مستلهمة من فيلسوفها الأشهر موتسو، الذي اتفق مع الكونفوشيين في الاهتمام برفاهة البشرية والعناية بالجوانب المدنية والحضارية الحداثية؛ ولكنه اختلف معهم في آلية وكيفية الوصول الأمثل لتلك الرفاهية البشرية، ويطول شرح ذلك.. والخلاصة أن الشعار الأبرز لهذه المدرسة هو (طوّروا الصالح العام وأزيلوا الشر) ومن هنا نقول: النفع الجماعي هو المعيار والمقياس الذي تدعو الموهية إلى استخدامه في قياس السعادة الإنسانية، فالسعادة تُقاس عندهم من خلال الفوائد التي يكتسبها الناس في وطنهم، كزيادة الدخل وتوفر المساكن والخدمات الحياتية المختلفة للجميع.
وأرى هنا شيئاً من تقارب أو تماهي (الموهية) مع فلسفات أخرى، كفلسفة أبيقور، والفلسفة «القورينائية» وأبرز فلاسفتها أرستبوس القورينائي، وغيرهما من الفلسفات التي ترى أن جلب النفع واللذة وتحقيق المصلحة والمتعة والرفاهية... وما شابه ذلك، هو المقياس الدقيق لصحة الأشياء والأفكار والآراء والأقوال والأخلاق.
أكد «موتسو» كثيرًا على رفض الحرب، وكراهيته لفكرة المعارك والقتال بين البشر، ومن أجل الوصول إلى السلام والتوقف عن الصراعات العسكرية، لا بد في رأيه من ردع الدول الكبيرة القوية، التي تتهجم على الدول الصغيرة الضعيفة، فاقترح منذ تلك الأزمنة القديمة (إيجاد قوى عسكرية مشتركة)، تتدخل لنصر أية دولة ضعيفة تعتدي عليها دولة أقوى منها.
كما أكد على أنه يستحيل أن تقوم دولة جديدة دون شر وحروب، ولذلك دعا إلى دولة واحدة عالمية، ذات طابع شيوعي، تتجاوز كل الحدود الإقليمية والسياسية والمناطقية.. كما أكد أيضا - كما كونفوشيوس - أن الأنانية هي مصدر كل الشرور والأخطار والمشاكل الإنسانية.
ونستطيع في الحقيقة أن نختصر كثيرًا من الكلام، إذا عرفنا أن غالب أفكار هذه المدرسة هي نفس أفكار الكونفوشية، أو مقاربة لها؛ ولكن الفرق يكمن في أن موتسو كان يرى كونفوشيوس حالمًا مثاليًا، رغم اتفاقهما في كثير من الأفكار، فقرر أن يكون مصلحًا عمليًا يُطبّق الأفكار على أرض الواقع، ولا يكتفي بالمثاليات والادعاءات والأحلام، وكانت نتيجة جهوده ظهور هذه الفلسفة، ذات النزعة الإنسانية بثوبها النفعي.. والخاتمة هي أن الفلسفة الموشية، أضافتْ طابعاً عمليًا تطبيقيًا إلى الأخلاق والقيم والأفكار المثالية الكونفوشية.
وهناك أيضاً مدرسة فلسفية أخرى وهي مدرسة الأسماء، التي اهتمتْ جداً بعلاقة اللغة بالواقع، وهي فلسفة ذات اتجاهات نظرية بحتة، جعلتْ بعض فلاسفة المدارس الأخرى يسخرون منها، فقد كان رواد مدرسة الأسماء يركزون على سبر أغوار العلاقات بين الكلمات والأشياء بشكل عجيب، ومن هنا انصبَّ عملهم على التفريق بين الأسماء والمسمّيات.. بين الشكل النظري والمضمون التطبيقي على الواقع، والخلاصة أن الاسم يتميز بالاستقرار والثبات والديمومة، بعكس المسمّى الواقعي الذي يتحوّل ويتغيّر باستمرار.
وأبرز الفاعلين في هذه المدرسة الفيلسوف «هوي شيه»، الذي وضح توجههم بدقة، حين أكد على أن الاسم يدوم حتى إذا انقرض المسمّى أو زال أو لم يعد له وجود في الواقع، ويضرب مثالاً بالمنضدة، فهي موجودة كماهية ومستمرة كاسم، أما المسمّى فتختلف أشكاله وقد يوجد أو لا يوجد.
ومن مشاهير هذه المدرسة أيضًا فيلسوفها الآخر «كونج سون لونج»، الذي يضرب أمثلة أخرى «ميتافيزيقية» ليصل إلى نفس نتيجة صاحبه السابق هوي شيه، والأمثلة من قبيل: (الإله - الروح - النفس - العدم) فكلها موجودات اسمية في الواقع؛ ولكنه يرى أنها تفتقد الوجود المادي المحسوس.. والزبدة هي أن هذه المدرسة أكدتْ على أنه من الخطأ رفض كل ما لا يمكن تحققه ماديًا.. ولا أدري لماذا يلحُّ عليَّ أفلاطون في التدخل هنا، أو لماذا يخطر على بالي اسمه دائمًا وأنا أدرس هذه المدرسة الفلسفية الصينية.. ربما لوجود علاقة بين توجههم وبين (عالم المثل) عنده، أي نظرية عالم المثل الموجود قبل العالم الحسي أو المادي بحسب أفلاطون.
ونختم بمدرسة فلسفية صينية سادسة أخيرة لها من اسمها نصيب، وهي المدرسة «القانونية»، أو «الشرائعية»، وأهم ما يميزها دعوتها لاعتماد القانون الطبيعي دستورًا وركيزة أساسية للفهم والحكم على كل الوقائع في حياة البشر، فالمجتمع في نظر فيلسوفها الأبرز (هان فاي تسو) لا يكون صالحًا إلا بحكم «القانون»، لا بالأخلاق وحدها.
وخلاصة رأي هذه المدرسة، هو أن الناس أشرارٌ أساسًا بطبعهم، ولذلك فإن سلطة القوانين وحزم الدولة مطلوبة، لتحقيق رفاهية البشر.. وبهذا تعارض هذه الفلسفة بوضوح المدرسة الكونفوشية، التي كانت ترى العكس، أي أن تعزيز الأخلاق والخير يجب أن يسبق القانون والعقاب، في سبيل تطوير السعادة الإنسانية.
- وائل القاسم