على الرغم من محاولات بعض الناس العمل على سلوك درب المنطق السليم والتفكير القويم، وسعيهم إلى جمع البراهين والحجج بهدف الوصول إلى حقيقة ما، أو حلٍّ ما، إلاّ أن تعرّضهم في كثير من الأحيان إلى الخيبات والمفاجآت غير السارّة وأصابتهم بالإحباط، جعلتهم يجنحون إلى عالم الغيب، آملين ومتوسلين الحلول الوهمية لتحقيق أمنياتهم وما يصبون إليه، لذلك، ومنذ الزمن القديم تكاثر المنجِّمون وازدهر سوق كشف البخت والطالع والضرب بالمندل، وظَهَرَ مدَّعو علم الغيب وقراءة النجوم وهتك أستار المجهول بآرائهم الغرائبية وتوقّعاتهم العجائبية، هذا إلى جانب كتابة الرقى والتعاويذ والطلاسم بطرق متعدّدة وبمختلف اللغات والرموز والإشارات، وذلك لفك حالات الضيق وإزالة الكرب وتحقيق الشفاء والتعجيل بقدوم الفرج.
غالباً ما أضفى الإنسان صفات «البركة والقداسة» على بعض الأمكنة والأشياء، وقدَّم لها النذور، كشجرةٍ معيّنة أو نبع ماء، أو مكان قديم مهجور، أو ضريح مجهول... إلخ معتبراً تلك المطارح والأشياء بمثابة مركز «بريد» بواسطتها يمكنه إيصال رسائل التمنيات والتوسّلات بخشوع وإيمان إلى أرواح الأولياء والصالحين، الذين لهم كرامات على رجاء وأمل بتحقيقها!
في تلك الحالات يكاد «الوهم» يستولي على تفكير الإنسان، وإذا كان كما يُقال: «إن آخر الدواء الكيّ»، فيكون التمسّك بأذيال الغيب وتلابيب المجهول هو آخر الحلول الممكنة بفعل اليأس والقنوط والاستسلام.
منذ سنوات وحتى هذه الأيام كَثُرَ ويكثر الحديث عن شجرة كبيرة معمِّرة موجودة في منطقة «البقاع» الغربي من لبنان، حيث يُروى أن أحد الأولياء الصالحين كان يتفيّأ بظلالها أثناء مروره بها، وبذلك اكتسبت مكانة مقدَّسة وأصبحت بالنسبة لأهالي المنطقة مباركة، وبدأوا يعقدون على أغصانها - تيمّناً - شرائط صغيرة من القماش طلباً وأملاً بتحقيق الأمنيات.
بمرور الزمن وتناقل أخبارها العجائبية - حسب رواياتهم - بدأ الناس يفدون إليها من البلدات والقرى البعيدة حاملين معهم الأشرطة القماشية الجاهزة للتعليق، حتى أصبحت كتلة حاملة مختلف الألوان وتُرى من بعيد متميِّزة عن بقية الأشجار، وأطلقوا عليها لقب «أم الشراطيط»!!
ولقد كنتُ قد رأيتُ شجرة مماثلة في «المغرب» حافلة أيضاً بالشرائط الملوَّنة، وكذلك شاهدتُ وسمعت عن العديد من الأشجار التي أُسْبِغَتْ عليها الأوصاف والصفات التي تدور حول» القداسة واليمن والبركة... وهي موجودة في كل بلادنا العربية تقريباً.
يبدو لي أن لكل قطر وإقليم وقرية ودسكرة ومكان من المحيط إلى الخليج «شجرته» وكذلك نوعية وألوان ومقاسات «شراطيطه» المعقود عليها كل الإستراتيجيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والبرامج والخطط والتوقعات القادمة!!
اللهم لا نسألك رد القضاء، وإنما نسألك اللطف فيه، فليس «بالشراطيط» وحدها تتحقّق الأمنيات والأحلام بغدٍ أفضل يمكن أن تتحسَّن فيه الأحوال ويحدث التقدم والتطور وينعم الناس فيه بالسعادة والهناء!
- غازي قهوجي
kahwaji.ghazi@yahoo.com