-1-
نتحدث كثيراً عن «فشل التعليم» في بلادنا..
نكرّر هذه المعلومة منذ ثلاثة عقود، ونعيد صياغتها في كلّ مناسبة..
تُبذلُ جهودٌ كبيرةٌ وتُرسمُ خططٌ أكبر.. تذهبُ قياداتٌ تربوية وتأتي أخرى، وتظلّ هذه المعلومة ثابتة لا تتغير كأنّ كل شيء ثابتٌ من حولها!
هل يعني هذا أنها معلومة إسقاطية، مفروضة على واقعنا التعليمي أكثر مما هي معبّرة عن حقيقته؟
من زاوية أخرى: هل يعني ثباتُها أنّ كلّ ما نبذله (حركة بلا بركة)، وأنّ كل ما يتفوّه به مسؤولو التعليم في المناسبات والوقائع التربوية كلامٌ عابرٌ ينتهي قبل أن تنتهي المناسبة نفسها؟
تصريح بعض مسؤولي التعليم في الآونة الأخيرة بعدم رضاهم عن التعليم: هل هو تعبيرٌ لطيفٌ عن الفشل؟ أم تعبير عن الطموحات التي لا تفتأ تنظر إلى البعيد البعيد؟
بإيجاز: في جميع مجالسنا ينعقد الإجماع إلا قليلاً على فشل تعليمنا، لكننا لا نجد وراء هذا الإجماع عرضاً مقنعاً لأسباب الفشل، ذلك بأنّ غالب ما يعرض متصلٌ بزاوية واحدة، تتضخّم أحياناً فتقصي الزوايا الأخرى كما سنرى
-2-
في البيئة التعليمية نجد قناعة شبه تامة لدى جميع الأطراف بفشل التعليم، لكننا حين نسعى إلى فهم الحيثيات نصطدم بضيقٍ على مستوى الرؤية واختزالٍ مذهلٍ لنجاح التعليم أو فشله في عنصر واحد من عناصر العملية التعليمية .
فمثلاً عند سؤال الطلاب عن السبب الرئيس لفشل التعليم ينصرف حديثهم إلى نقص أو خلل معين في البيئة المدرسية، وتأخذ مطالباتهم أبعاداً ترفيهية أكثر منها معرفية، كتوسيع حصص التربية البدنية، ووضع صالات رياضية، وتوسيع دائرة النشاط المسرحي أو الرحلات. وهذا كله (رغم أهميته بلا شك) يعبّر عن إقصاء الجانب المعرفي، أو حتى الطرائق التي يمكن أن تسهم في بناء الشخصية العلمية أو التربوية للطالب. ولذلك حين يتحدث كثيرٌ منهم أو من أولياء أمورهم عن المعلم نكتشف أنّ تقييمهم مبنيّ في الغالب على معايير لا علاقة لها بالجانب العلمي أو التعليمي أو المهاري، فهذا المعلم ناجح عند كثير من الطلاب؛ لأنه (يسولف معهم، ويحذف لهم من المقرر، ويمشّيهم) وذاك فاشل لأنه (صارم، ويشرح 45 دقيقة، وما ينجح عنده أحد إلا بطلعة الروح) !
ولا يختلف الأمر كثيراً في الضفة الأخرى؛ فالمعلمون أيضاً يتحدثون عن فشل التعليم انطلاقاً من الجانب الذي يعنيهم، دون الاهتمام أحياناً بالمردود الإيجابي أو السلبي على الطالب؛ فالتعليم لديهم فاشل لأن المعلم لم يحصل على حقوقه المادية، ولأن هيبة المعلم مفقودة، ولأن النّصابَ كبير، ولأن فرص النقل محدودة، ولأنّ المقرر طويل أو قصير، ولأن وسائل المعلم في السيطرة على الطالب ضعيفة.
وكل ما سبق مهمّ بلا شك، لكنّ المشكلة في ربطه بنجاح أو فشل التعليم بكامل منظومته وإقصاء العوامل الأخرى.. ويمكن أن أستشهد – في هذا السياق - بتفاعل المعلمين والمعلمين مع وزير التعليم بعد أن قرّر تقديم إجازتهم الصيفية، إلى حدّ أن بعضهم قطع – من خلال حسابه في تويتر - بأنّ التعليم يسير في الطريق الصحيح! وأنّ الوزير الجديد على وعي جيّد بواقع التعليم ولديه الاستعداد التامّ للإصلاح!! لذلك تحركت مجموعاتٌ في الوقت نفسه للمطالبة بحقوق المعلمين والمعلمات، وبتوسيع حركة النقل، وبتخفيض النصاب، وبإعادة الهيبة للمعلم، وكلها كانت تجتمع تحت عنوان عريض هو «إصلاح التعليم» !
على المستوى الإداري نجد كلّ إدارة تربوية تحيل الفشل الذي ترصده إلى الإدارة الأصغر أو الأكبر، فالوزارة تحمّل إدارات التعليم المسؤولية، وإدارات التعليم تحمّل مكاتب التربية، ومكاتب التربية تحمّل الإدارات المدرسية، وفي التفاصيل (المسكوت عنها وربما المقموعة) تقرّ كلّ دائرة بأنّ الوضع لا يفضي بالجميع إلا إلى الفشل لكنّ مسؤوليتها تقتضي إنكار هذا الفشل في العلن، ودفع مسبباته ما أمكن في السرّ، كل ذلك بجهود ومهارات فردية !
-3-
إذا تجاوزنا البيئة التعليمية ونظرنا إلى ما ينشر في الإعلام حول جزئية فشل التعليم سنجد اتفاقاً كبيراً بين المفكرين والمثقفين والأدباء والكتاب والإعلاميين على فشل التعليم، لكننا نلحظ أن التحرك إلى تفسير هذا الفشل وعرض تجاربه يأخذ بعداً إيديولوجياً، فالتعليم فاشل في نظر هذا التيار؛ لأنه يفصل بين الجنسين، لأنه يحارب الفنّ، لأنه لم (ينفتح) بما يكفي على الآخر (تعليمياً وثقافياً وحضارياً)، وهو فاشل في نظر التيار الآخر لأنه يفصل الطالب عن تراثه، لأنه يدلّل الطالب، لأنه خفّف الجرعة الدينية التي تحصّن الطالب من الفتن !
وهكذا تُرتّب كلّ فئة النجاحَ والفشلَ على مظاهر محدودة لا تملّ من تكرارها، وتغفل جوانب أخرى مهمة، فكلا التيارين يتجنّب الخوض الملحّ في الجانب الفني، ويتجافى عن المطالبة بحقوق المعلمين والمعلمات، ويتأخر عن المساهمة الجادة في معالجة القضايا السلوكية المد مّرة التي تعرش على جدران مدراسنا !
ولكي أؤكد البعد الإيديولوجي في تقويم التعليم سأشير إلى القضية الأخيرة المتعلقة بفصول تحفيظ القرآن الكريم في مدارس التعليم العام وتعيين أحد الأكاديميين مستشاراً للوزير للشؤون الفكرية.. لقد جزم تيار فكري عريض وقتها بأنّ التعليمَ يعود إلى الوراء، في حين جزم التيار الآخر بأنه يسير إلى الأمام، وبقدر ما استرسل التيار الأول في التعبير السلبي عن الوزير أو قراراته كان التيار الآخر يدبّج فيه القصائد الطوال !
المناهج على سبيل المثال كانت مضماراً للسباق بين التيارين، وقد استُثمرت فيها مقولة الفشل بصورة كبيرة، والطريف أنّ كلا التيارين انطلق منها لتفسير شيوع ظاهرة التطرف، فهذا يعيد التطرف إلى المناهج التي بنيت على أقوال فقهية ومذهبية متحيزة/ متشدّدة/ منغلقة، وذاك يعيد التطرف إلى التغيير الذي طرأ على المناهج في العقد الأخير فذوّب القيم الدينية، وأسلم جيلاً كاملاً للحيرة!
-4-
ماذا يعني كلّ ما سبق؟
يعني الآتي:
1- أنّ جميع الأطراف على يقين بفشل التعليم أو في أحسن الأحوال بسيره في الاتجاه الخطأ .
2- أنّ ثمة اختلافاً بين هذه الأطراف في توصيف فشل التعليم وتفسيره، فمن داخل التعليم يتحدث كلّ طرف انطلاقاً من الجزء الذي يعنيه (قد يكون مصيباً وقد لا يكون)، ومن خارج التعليم (خاصة في المشهد الثقافي) تستثمر مقولة فشل التعليم في صراع فكري، يبحث في التعليم عن رؤيته أكثر مما يبحث عن أي شيء آخر، لذلك تنتقل رموز التيارات الفكرية من الدفاع عن التعليم إلى الهجوم عليه بناء على شعورها بقرب التعليم أو بعده من رؤيتها !
3- أن وزارة التعليم اختارت التزامَ الصمت أمام هذا اليقين الواسع، إذ لا أذكر أنني اطلعتُ على تصريحٍ جاد يحاور هذه المقولة الخطيرة، أو يحاول مقاربة جانبها البنائي!
وفي المقالة القادمة امتداد..
- خالد الرفاعي