نجيب الخنيزي
في مطلع شبابي تسنى لي قراءة موسم الهجرة إلى الشمال وهي رواية مشهورة على الصعيدين العربي والعالمي كتبها الطيب صالح ونشرت في عام 1966م. بطل هذه الرواية مصطفى سعيد، وهو طالب عربي يدرس في الغرب وفي بريطانيا على وجه التحديد. جذوره من الجنوب، من إفريقيا، وحصل على وظيفة محاضر في إحدى الجامعات البريطانية ويتبنى قيم المجتمع البريطاني. هناك يتعرف إلى زوجته، جين موريس، وهي امرأة بريطانية ترفض قبول إملاءات زوجها. بعد سبعة أعوام يعود مصطفى إلى بلاده، حيث يلتقي هناك بصورة مفاجئة براوي القصة الذي عاش أيضاً في بريطانيا. القصة نفسها تروى عن طريق قصص يرويها الراوي والبطل في ما يشبه الحوار (المونولوج) الداخلي. والرواية تعكس حال التشظي والصراع الداخلي بين الموروث الثقافي المحلي، والثقافة الغربية الوافدة، أو المكتسبة، وحال التوتر والتخلخل بين الذات (الأنا) والآخر، بين الشرق والغرب، بين دول المركز وثقافتها وبين ثقافة الأطراف، بين ثقافة مسيطرة وثقافة متحصنة ومتقوقعة على الذات.
في واقع الحال العلاقة بين الشمال والجنوب وبين الغرب والعالم العربي لا تحكمها مجرد علاقات ثقافية تتسم بالتجاذب والانبهار والصراع والممانعة في الآن معاً، إنها علاقات مركبة منذ عهد السيطرة الاستعمارية على جل البلدان العربية وما رافقها من عنف وقتل وتدمير وإلحاق ممنهج، وحتى الهيمنة الإمبريالية بتجلياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية، ناهيك عن الدور الوظيفي الذي تقوم به إسرائيل منذ قيامها كقاعدة متقدمة للغرب (وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية) وللحفاظ على مصالحه في قلب العالم العربي.
المشكلة المتفاقمة في وقتنا الحاضر تتمثل في زيادة أعداد اللاجئين في العالم العربي، ووفقا لتقرير أصدرته المنظمة العربية لحقوق الإنسان أن هناك 11.9 مليون نازح على الأقل في نهاية العام 2014 من العراق وليبيا وسوريا واليمن ويمثل هذا الرقم قرابة الثلث على مستوى العالم، ناهيك عن ملايين أخرى من النازحين في داخل بلدانهم، وهذا الرقم لا يشمل عدد اللاجئين الفلسطينيين على يد الاحتلال الإسرائيلي والذين يقدرون بحوالي 5.5 ملايين لاجئي يتوزعون ما بين الدول العربية المجاورة وبقاع الشتات الأخرى في العالم. هذه الحقائق جرى تجاهلها من قبل القوى المتنفذة في العالم على مدى سنوات وعقود رغم مسؤوليته المباشرة وغير المباشرة عنها.
غير أن وصول تأثير الأعداد المتزايدة للاجئين إلى الغرب، واتساع نطاق الرحلات البحرية السرية لطالبي اللجوء والمحفوفة بالمخاطر إلى شواطئ جنوب أوروبا على الرغم من غرق الآلاف من المهاجرين سنوياً. تلك الوقائع المفجعة أخذت تتصدر وسائل الإعلام الغربية والعالمية وتفرض نفسها على الحكومات الغربية، بعد أن تحولت أوروبا إلى مركز جذب لأعداد متزايدة من المهاجرين من مختلف الأقطار العربية وغير العربية، خصوصاً تلك البلدان التي تعيش أزمات وصراعات وحروباً أهلية دامية، ويسودها الاستبداد والفساد وتجد انعكاساتها في انعدام الأمن وفشل التنمية وتفشي الفقر والبطالة وتردي الخدمات، وبكلمة تفتقد فيها أبسط مقومات الكرامة الإنسانية.
التساؤل الذي يطرح نفسه هنا: لماذا هذا الاهتمام المفاجئ أو ما يطلق عليه صحوة الضمير الإنساني لدى الغرب إزاء محنة اللاجئين العراقيين واللاجئين السوريين على وجه التحديد، وخصوصاً إثر تصدر صورة جثة الطفل السوري إيلان على شاطئ بدروم التركي، وصورة أخرى للمستشار الألمانية وهي تذرف الدموع، واجهة الصفحات الأولى في كبريات الصحف الغربية؟.. ونتساءل مرة أخرى: ألم تسبق نشر تلك الصورة، نشر صور القتل والدمار والتدمير الممنهج على نطاق واسع للبشر والحجر والشجر والتاريخ والإرث الحضاري الإنساني والذي كان الغرب شاهداً ومتفرجاً عليه إن لم يكن متورطاً فيه؟.. لا شك أن النظم العربية الاستبدادية والفاسدة التي تعاني من عدم الاستقرار تتحمل المسؤولية المباشرة عن تفاقم الأوضاع الإنسانية المروعة التي تعيشها العديد من الشعوب العربية ومن بينها تزايد أعداد ضحايا النزاعات والحروب الأهلية، وجرائم القوى الإرهابية، غير أنه يتعين على المحيطين العربي والإقليمي، والمجتمع الدولي والقوى المتنفذة فيه تحمل المسؤولية ليس على الصعيد الإنساني فقط، بل والحقوقي والاقتصادي والأخلاقي، وهذا لن يتأتى إلا من خلال نبذ اللجوء إلى العنف والصراع المسلح في هذه الدول، وتشجيع ودعم عملية سياسية وحوار داخلي فيها، يرتكز على التوافقات الوطنية العامة المشتركة، والتي قوامها دولة مدنية عابرة للهويات الفرعية، ومتحررة من الاستبداد والفساد، ومشاركة شعبية في صنع القرار، ومواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، وتنمية مستدامة ومتوازنة تستند إلى العدالة الاجتماعية.