إبراهيم عبدالله العمار
يعتقد قوم من النصارى أن عمر التاريخ البشري قريب، وأنه بدأ قبل 6 آلاف سنة. لم يستطع أحد أن يعترض على مزاعم الكنيسة في الماضي؛ لأن مصيره سيكون القتل أو التعذيب، لكن شيئاً فشيئاً تعالت الأصوات المعترضة على مزاعم النصرانية وأغلاطها، مثل تعارض كتاب النصارى مع حقائق علمية، حتى أتت الثورة الفرنسية ففصلت بين النصرانية والحُكم، وانتقلت هذه العقلية إلى بقية الشعوب الأوروبية حتى تخلصت أوروبا من حكم الكنيسة. ولما اختفت النصرانية من التشريع انتشر العلم والتقدم، وبدأ العِلم يُظهر خطأ زعم النصارى هؤلاء أن عمر الأرض 6 آلاف سنة، فاكتشافات الأحافير أظهرت أن التاريخ البشري أقدم من ذلك بكثير.. وأخذت الاكتشافات تدفع التاريخ للخلف؛ فنكتشف آثار بشر عمرها ألف سنة، ثم 5 آلاف، ثم 10 آلاف.. وهكذا.
ظل التاريخ البشري يزداد قِدَماً مع هذه الاكتشافات، إلى أن أتى عام 1931م، الذي ظهر فيه أحد أعظم الاكتشافات الأثرية. ذهب العالم البريطاني لويس ليكي إلى إفريقيا برعاية وتمويل المتحف البريطاني، وكان المقصد التنقيب في تنزانيا، في وادي أولدوفاي. بينما هو ينقّب هناك خلال طبقات الصخور عثر على شيء مدهش، شيء ليس كالطبقات الصخرية التي كان يعاينها، والتي نحتتها الطبيعة. هذا الشيء نحتته أيدي البشر. وجد هذا الشيء قريباً من عظام. ما هو؟
إنها قطعة صخرية حادة. هذه الآلة استخدمها البشر لقطع اللحم وتكسير عظام الحيوانات التي اصطادوها. الآن الشيء المدهش أن عمر هذه الآلة قرابة مليونَيْ سنة! أمسك ديفد أتنبورو هذه القطعة، وهو مذيع اشتهر بالتعليق على الوثائقيات عن الطبيعة والحيوانات، وقال: «وأنا أمسك هذه القطعة أشعر وكأنني في السفانا الإفريقية، وأني أحتاج إلى أن أقطع اللحم، أحتاج إلى أن أمزق جثة حيوان لأحصل على وجبتي. عندما تحمِلها أول ما تشعر به أنها ثقيلة جداً، وهذا يعطيها قوة. ثاني شيء تشعر به أن يدك تسعها بسهولة. صار كأن معي سكيناً في يدي. وهناك بروز فيها يعطيني قدرة أن أمسكها بإحكام، وترى آثار النحت. أستطيع أن أقطع اللحم بكفاءة بهذه القطعة. هذا هو الشعور الذي أشعر به، والذي يربطني بالشخص الذي تعب في صنعها».
القطعة الثانية التي وُجدت في أولدوفاي شيء يسمى (فأس يدوي)، وهو قطعة صخرية تشبه قطرة الماء، لها طرف ناتئ، يمكن أن يُستخدم كمثقاب، والجوانب الحادة تقدر أن تقطع الشجر واللحم، أو تكشط اللحاء أو الجلد. تبدو عادية لكن الحقيقة أن صنعها صعب جداً، ولمدة مليون سنة ظلت هذه القطعة قمة التقنية البشرية، ورافقت أجدادنا في نصف تاريخهم البشري.
للعين غير الخبيرة تبدو القطعتان متشابهتَيْن. الحجم مقارب، والأغراض تتشابه بعض الشيء، لكن القطعة الأولى وُجِدت في طبقات جيولوجية أعمق. ماذا يعني هذا؟ أن الثانية أجدُّ. كم الزمن بين الاثنتين؟ فقط علينا أن نعرف عمر القطعة الثانية: يعود الفأس اليدوي إلى قرابة 1,4 مليون سنة، أي أن بين الاثنتين مئات الآلاف من السنين!
بسبب كثرة الاستخدامات التي تتيحها هذه الآلة لم يعد البشر مقيدين بمكانهم؛ فصاروا يستطيعون التنقل؛ لأن معهم شيئاً يتيح لهم الأشياء المهمة (الحصول على الغذاء مثلاً)، وصار السفر ممكناً. صار البشر يقدرون أن يتركوا سفانا إفريقيا، ويعيشوا في أماكن باردة. عندما تركوا إفريقيا انتقلوا لأكثر من مكان. وجدنا آثاراً تشبه هذه القطعة في إفريقيا (نيجيريا، ليبيا)، لكن أيضاً في فلسطين وكوريا والهند وإسبانيا، بل حتى في رقعة ترابية قريبة من مطار هيثرو! هؤلاء قد يكونون أول بشر سكنوا بريطانيا، والفضل لتلك الآلات الصخرية الصغيرة الحجم العظيمة الأثر.