محمد آل الشيخ
كوريا الجنوبية كانت دولة فقيرة معدمة، لم يكن لديها من الموارد الطبيعية إلا الماء وعقول وسواعد الرجال والنساء، في بلد انهكته الحروب والنزاعات الأيدولوجية وتجاذباتها. ولم يكن أمام المخططين الإستراتيجيين حينما بدؤوا ملحمة التنمية الاقتصادية، إلا التركيز على الإِنسان، وتعليمه وتدريبه، وصقل مهاراته وقدراته وتحفيزه على الإبداع والابتكار، ليكون قادرًا على الارتقاء بوطنه وانتشاله من القاع إلى قمة التنافس الصناعي والحضاري، والعمل على أن يكون العنصر البشري هو (الميزة النسبية الاقتصادية) لكوريا، التي ليس فيها من الموارد الطبيعية سوى الماء، ومناخ قاري، وتضاريس جبلية وعرة.. وبالفعل، استطاعت كوريا الجنوبية من خلال جهود دؤوبة ومستمرة، وتخطيط محكم، أن تخترق الصفوف، وتختزل الزمن، وتصبح اليوم معجزة من معجزات االدول التي تنافس منتجاتها الصناعية، ليس دول أوروبا واليابان فحسب، وإنما العملاق الأمريكي أيضًا.
إن التفوق الكوري الجنوبي، ودخل الفرد هناك، قفز بالتخطيط المبرمج الذكي، والتعليم والتدريب وصناعة الفرد وتحفيزه على الإبداع والتفوق، ليناهز قرابة (الثلاثين ألف دولار سنويًا)، وكان دخله لا يتجاوز المائة دولار طوال السنة، حين ابتدأ الكوريون ملحمة التنمية في بداية الستينيات من القرن الماضي.
سألت مواطنًا كوريًا: كيف توصلتم لهذا الإنجاز الاقتصادي المبهر؟.. قال: بإقصاء الأيديولوجيا عنا، وتحكمّها في ثقافتنا، فقد عانينا منها الأمرين، والتركيز على الفرد المتحرر وتعليمه العلوم النافعة المنتجة، وتدريبه، واعتبار (الاتقان) في العمل والإخلاص فيه، شرط ضرورة للحياة، وفي المقابل يكون الاستهتار والتراخي في إتقان المنتج النهائي، من شأنه أن يهوي بالفرد إلى أسفل سافلين، تكتنفه البطالة، ويلفه العوز، ويقتاته الفقر والجوع. وأضاف: الكوري الجنوبي يؤمن ثقافيًا إيمانًا راسخًا، يصل مستوى (العقيدة)، أنه كالحصان في مضمار السباق، إذا كلّ أو ملّ وتراخى عن الجد والتفاني والركض فلن يبقى في السباق، ويخرج منه خاسرًا تجلله الخيبة ويكسوه الفشل؛ هذا ما يتفق عليه الكوريون ويعتبرونه في ثقافتهم بمنزلة القَدر الذي لا مفر منه.
وربما لا يدرك كثيرون أن الحرب الكورية - (1950 إلى 1953) - كانت حربًا أهلية بين الشطر الشمالي والجنوبي لشبه الجزيرة الكورية، استمرت لثلاث سنوات كلفت الكوريون حينها 69 مليار دولار، أي خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السنوي آنذاك، وانخفض دخل الفرد خلال الحرب وبعدها إلى 50 دولارًا سنويًا، ودُمرت ربع البنية الاقتصادية تدميرًا كاملاً، وما تبقى منها دمر جزئيًا، وتساوت بالأرض 40 في المائة من الوحدات السكنية، كما دمرت 80 في المائة من محطات توليد الكهرباء، و47 في المائة من سكك الحديد، ونسفت 500 كلم من الطرق المعبدة، وتراجع الإنتاج الصناعي البدائي حينئذ إلى ما نسبته 75 في المائة، كما كانت الخسائر البشرية للحرب مهولة وصلت إلى ما مجموعه مليون وثلاثمائة ألف كوري جنوبي، بينهم أربعمائة ألف قتيل، وانتهت النتيجة إلى التعادل من دون أهداف: (صفر الكل).. ومن هذا الصفر وهذا الحطام وهذه الحرب التي كانت في مضمونها حربًا ذات بعد (أيديولوجي) تعلم الكوريون الجنوبيون جيدًا أن الحرب والنزاعات الأيدلوجية المتمخضة عنها، ليس وراءها إلا الدمار والخراب، فكان هذا الدرس القاسي المدمر، نبراسًا لهم على المستوى الشعبي ثقافيًا، جعلهم يمقتون الحروب؛ فانصرف كوريو ما بعد الحرب إلى ثقافة التنمية البشرية، وأعادوا بناء الاقتصاد، وأقصوا (الأيديولوجيات) التي كلفتهم هذه التكاليف الباهظة؛ وخلال ثلاثة عقود (فقط) ها هي كوريا الجنوبية الآن كما تشاهدون وليس كما يذكر لكم.
فهل نرى سوريا المسحوقة الجريحة بعد هذه الحرب الطاحنة، كما هي كوريا الآن.. التاريخ الذي مرت به كوريا الجنوبية، يتطابق إلى درجة كبيرة مع ما تمر به سوريا الآن، ولكن - وهذا مرتكز أساسي - شريطة أن يدرك السوريون ما توصل إليه الكوريون، ومؤداه أن الأيديولوجيات والصراعات أيًا كان باعثها (قوميًا كان أو متأسلماً)، لا تُولد إلا الدمار والخراب والحروب.
إلى اللقاء.