د.فوزية أبو خالد
يحضر اليوم الوطني لهذا العام متزامنا مع مناسبة غالية مشحونة بالشجن الوجداني وبالتفاعل الاجتماعي وبحمولات تاريخية وسياسية متعددة ومتنوعة تتمثل في موسم الحج. ففي الحج يتمثل ذلك المفهوم السامي المشتهى الذي اسمه العدل والمساواة. وفي الحج تتمثل تلك الشيمة الغالية الشماء التي اسمها التسامح.
وفي الحج يجري تحدي التنافر والضغائن والكراهية والتنابذ والاحتراب وكل أشكال الحروب بفعل بسيط اسمه التعايش السلمي بين كل أنواع الاختلافات من التاريخ إلى الجغرافيا ومن اللون إلى الأنساب ومن العقول إلى الثقافات.
وقد رأيت أن هذا التزامن يتيح أن نفحص المناسبة الوطنية من زاوية نادرا مايجري التركيز عليها وتتمثل في ذلك الأفق الإنساني والسياسي معا الذي يفتحه موسم الحج على اليوم الوطني مما يضيف للمعاني المرتبطة به من حس الانتماء إلى أرض وعلم وإلى جديلة من مشتركات الذاكرة والاستشراف المستقبلي، معان إضافية قد يكون من المثير اكتشافها والتفكير فيها. ولاستكشاف هذه المعاني سنبحث معا في بعض النقوش والرموز السيسيولوجية والإنثربولوجيا لموقع الحج في ارتباطه بالمكان وبالناس وبالعلاقة بالآخر. وستكون الإشارة لذلك مشتقة من مواقف ميدانية تشترك أو تتقاطع مع التصورات الذهنية.
- الحفر في واد ليس ذي ذرع وفي المسالك السرية والسافرة التي حولته إلى مهوى للأفئدة، يكاشف البصائر المتحفزة للرؤية بذلك التواشج بين صبر الأنثى وبين إلحاح الطفولة وبين تفجر الماء في تآلف امتزاجي مع الهدف الإنساني النبيل للرسالة السماوية وهي عمارة الأرض.
فهناك السيدة الصبية الصغيرة هاجر رمز العنصر البشري الأنثوي وطاقات الصبر والاحتمال التي يحتاجها المخاض سواء كان مخاض الجنين أو مخاض الأمم. وهناك وادي التضور والظمأ والاستيحاش رمز مكاني للتحديات سواء كان تحديا فرديا أو تحديا وطنيا، وهناك الطفل إسماعيل كرمز لإرادة الحياة في أحلك الاوقات سواء كانت في إيقاع يومي أو تاريخي.
- بناء الكعبة، فوران زمزم السرمدي في وادي العطش، مرور القوافل في تحد موسمي لشظف العيش ووحشة الفلوات، فدية النفس التي حرم الله إلا بالحق بالأضحية.
- تراكم حرمات النفس في العلاقات الأولوية والثانوية وفي علاقات السلطة والدم والرحم والرق والعتق والعشق بما يمتد إلى حرمة العلاقة بالزمان في رمزية الأشهر الحرم وفي العلاقة بالمكان من خلال تلك العلاقة الخاصة التي لا تكف عن التقادم والتقدم معا في العلاقة بين العابر والمقيم وبين الضيف والمضيف.
- تقابل مركزية مكة المكرمة بجبالها السوداء الشموخ بعزلتها الجغرافية مع امتداداتها الكونية عبر القارات والأعراق واللغات في تماس متشابك متعدد متوالد يشمل الديني والتجاري والاجتماعي والفكري والوجداني بما يجعلها رمزا تبادليا وواقعا ممتزجا في تجسيد التعارف بين القبائل وبين الشعوب.
- فموسم الحج كما تعبر عنه الخبرات اليومية لأبطاله من الحجاج والأهالي موسم تآخي القيم على اختلافها وموسم تصافح الأيدي بتعدد أحجامها وألوانها وأطوالها ومهنها وموسم تلاقي القلوب على اختلاف ميولها وأهوائها وموسم تلاقح الفكر على تعدد مصادره ومشاربه ومدارسه وموسم تصالح الأرواح على تعدد سمواتها وأشواقها. موسم نادر لعلاقة تسامح متسامية تآلفية بين الذات وبين الآخر بين النساء والرجال بين الأكثرية والأقلية. وهو موسم مساواة يتحدى رأسية العلاقات السلطوية بمعناها الطبقي والإثني و(الجندري) أيا كان مصدرها فالكل على صعيد تراب عرفة وجمرات مزدلفة والمبيت في عراء منى يتوجهون للواحد الأحد.
- يضاف إلى تلك الخارطة الذهنية من وحي الحج تلك التفاصيل الصغيرة الملهمة لمعاش الحج (بضم الميم).
- فمن من أطفال مكة أو من ممن مرت صفحة من صفحات طفولته بأرض مكة مثلي من لم تحفر في ذاكرته فتنة تلك الجموع بتضوع روائحها من الفلفل الحراق والكاري وشموم الزنجبيل والفل والكادي والزعفران إلى البخور الوهاج والمسك والياسمين منصهرا في العرق الإنساني المتقطر من رحلة الحنين والوجد التي قد تستغرق للغالبية العظمى من الحجاج رحلة عمر من الكفاح والكد وحزم البطون ووضع القرش على القرش لبلوغ سدرة المخيلة وملامسة تربتها الخالدة الخصوبة على جبل عرفات.
- من منا لم تمر به نشوة حاجة أو حاج وهو يقبل حفنة من تراب مكة. وهو أو هي يتبارك باحتضان طفل من أرضها أو بتناول لقمة من يد سكانها.
- من من أهل مكة لم تتخضب ذاكرته وتتلون شبكيته بذلك التشكيل الخلاب لملابس زوار البيت الحرام من الأبيض اللامخيط إلى صخب الألوان الطائش لملابس النساء وهي تشكل راية عالمية متضادة ومتواشجة الأطياف.
- لازالت ترن في قاع عقلي وتنتشر في جهازي العصبي تلك النغمات الأخاذة لعشرات اللغات تنبجس من شفاه الحجاج من الهندي الهادر إلى الفرنسي الهفهاف ومن الفارسي الصليلي إلى الصيني الوسني ومن اللغة الإنجليزية المتقشفة والألمانية الصلبة إلى اللغة العربية الزجلة والتركية الباذخة واللغات الروسية الفارهة أو المتسترة بالسمت والغموض.
- على أن هذه ليست إلا لمحة خاطفة من سيسيولوجيا موسم الحج بمعناه التحرري من المسلمات السياسية والاجتماعية بل والفلسفية ومسبقاتها من الأطر الضيقة والأوعية المستهلكة والقوالب القاسية المتعجرفة.
وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى النقطتين التاليتين:
النقطة الأولى، أشير إلى مفارقة لافتة للنظر في قراءة الحج وهي أنه بينما يوجد غياب شبه مطبق إن لم يكن مطبقا لحيز الدراسة والتحليل لذلك البعد من موسم الحج أي البعد السيسيولوجي والإنثربولوجي عن مجالات دراسات العلوم الإنسانية بجامعات ومراكز البحوث السعودية، فإننا نجد احتفاء بهذا الحيز في عدد من جامعات مجتمعات إسلامية وعربية ومراكز بحوثها وتتميز كل من ماليزيا والمغرب على هذا الصعيد. بل إن هناك جامعات غربية لها اهتمام باستكشاف سيسيولوجيا وإنثربولوجيا الحج في علاقته بالمكان وبالإنسان، وقد قرأت قبل بضع سنوات عن تكليف جامعة برنستون الأمريكية العريقة وجامعة أكسفورد البريطانية حملة حج من أساتذة وطلبة علم مسلمين للقيام بتسجيل وثائقي لرحلة الحج لتحويلها إلى سفر ميداني يعاد فيه اكتشاف الحج ليس كشعيرة دينية تمثل للمسلمين الركن الخامس من أركان الإسلام ولكن كفعل إنساني عالمي يعتبر من أقدم وأعرق الأفعال التي تجمع في موسم واحد ضدي الوحدة والتعدد والاختلاف والتنوع بشتى الأطياف في تناغم سيمفوني عز تواجده في حقبة تاريخية واحدة فكيف بذلك التكرار السنوي المثير لأي فضول معرفي خاصة لمن ينظر إليه من خارجه.
- النقطة الثانية، تتعلق بما يفجره توافق تاريخ اليوم الوطني مع موسم الحج لهذا العام من طاقات حب وطني لازالت غفلا وأبعادا من القيم والمعاني لا تزال بحاجة لتأصيل وتفعيل، فموسم الحج موسم التسامح والمساواة والحوار والتبادل الفكري وشراكة الوجدان والخيال وهو موسم الوحدة والتنوع والتعدد وتعايش الأطياف بكرامة وسلام.
- وأخيراً في سيسولوجيا اليوم الوطني، عز الأوطان ليس عزفا منفردا للحكومات بل إنه لايكون بدون شراكة عشق وعمل مضفورة بالأمل وبعزم الشباب بين الدولة والمجتمع. دام عزك ياوطني.