د.محمد الشويعر
أستمرُّ في هذا المقال في استعراض الذاكرة لمزيد من النماذج التي احتفظت بها عن المواقف والحلول التي مرت بها مسيرة التعليم النسوي في المملكة. وقد تحدثنا في المقالين السابقين عن بدايات هذا النوع من التعليم، وكيفية استقبال الناس له، وانقسامهم إزاءه بين مؤيد ومعارض.
كما ذكرنا بعض النماذج لكيفية تعبير بعض القرى والمدن عن موقفهم من هذا التعليم، وكيف كانت الحلول المتخذة تجاه تلك المواقف. وفيما يأتي نواصل استعراض الذاكرة، ونقف على بعض الصعوبات التي اعترضت مسيرة هذا النوع من التعليم، وذلك فيما يأتي:
1-لم يجد المسؤولون في بداية فتح المدارس مؤهلات سعوديات، اللهم إلا « لطفيّة الخطيب رحمها الله»، فقدّمت صورة عن مؤهل تحمله من مصر في التوليد، فقد كانت تعمل بين الناس في مكة (قابلة)، ومعروفة في الأوساط بهذا العمل، فكانت أول سعودية تتعيّن في تعليم البنات. أما أول سعودية تتعيّن في الرياض فهي السيدة «فائزة الدباغ» التي درست في مصر، فكان تعيينها أولاً مفتشة، ثم مديرة للتفتيش لمدة طويلة، حتى انتقلت إلى جدة.
عيّنت لطفية مباشرة بمكة بوظيفة مفتشة، وفي السنة الثانية من تعيينها بدأت المدارس تتوسع وتفتح في مكة والمدن التي حولها: جدة، المدينة، الطائف، رابغ وينبع وغيرها.
فكُلّفَتْ لطفيّة بذلك، فكان لا بُد من العرض على زوجها الأستاذ حامد فطاني أن يرافقها في السفر، فتم نقل عمله من الديوان الملكي إلى الرئاسة باسم مفتش؛ ليصاحبها في الأسفار محرماً فقط.
وفي يوم من الأيام جاء معها لمعهد إعداد المعلمات، الذي فتح لخريجات الابتدائي بمكة، يحمل حقيبتها وأوراقها، وهو أول معهد لإعداد المعلمات في المملكة، يقبل فيه بعد الابتدائية، وكان البواب (واسمه ابن بليهد) من القصيم في بداية الكهولة من عمره، وقد منحه الله قوة ونشاطاً، وقد جاء إلى مكة بحثاً عن عمل، فجرى تعيينه بواباً لمعهد المعلمات، ومعه زوجته.
فأراد الأستاذ حامد فطاني أن يدخل المعهد مع زوجته فمنعه قائلاً: هذا ممنوع بأمر الرئيس العام، لا يدخل المدرسة رجال، فقال: أنا المفتش حامد، وهذه التي دخلت زوجتي المفتشة لطفيّة. فرفض إدخاله رغم أنه يحمل حقيبتها التي فيها أوراقها.
فجلس بجواره عند الباب، وبعد فترة جاءت زوجة البواب؛ لتخبره بأن المديرة تريد من البقالة كذا وكذا، فذهب بعد أن ردّ باب المعهد لإحضار ما طُلب منه، فلما عاد لم يجد كرسيّه ولا حامد فطاني، فتلفّت يميناً وشمالاً فلم ير لهما أثراً، وكان المعهد في حي الجميزا، في المنحدر الشرقي الجنوبي من الجبل قَبْل المعابدة.
نادى على زوجته ليعطيها ما طلبت المديرة؛ ليتفرّغ للبحث عن الكرسي وحامد فطاني، ولما فتحت زوجته الباب لتأخذ منه ما أحضر من البقالة إذا به يرى بغيته: حامد على الكرسي في الدهليز.
طلب منه الخروج فرفض، ونهره متعالياً عليه بأنه مفتش وهو فراش، فغلى الدم في عروق هذا البواب، ثم حمله هو وكرسيه، ورماه في الشارع، قائلاً: «تبي تحرمني أنا وزوجتي من هذه الوظيفة، اللّي جابها الله، تريد الشيخ ناصر بن حمد بن راشد يفصلنا، وهو آخذ علي تعهد ما يدخل المدرسة رجال».
فتدحرج حامد هو والكرسي إلى الشارع الرئيسي، وسقطت الحقيبة منه، وغترته وعقاله، وتلوثت ثيابه من التراب.
2- حالة ثانية عن الأستاذ حامد - رحمه الله -: فإنّ أول فوج تخرج من الابتدائية كان من مكة، وعددهن 35 طالبة، وقد نجحن في الشهادة الابتدائية؛ لأنهن يدرسن في مدارس أهلية، كمدارس عمر عبدالجبار - رحمه الله - وغيره. فما كان من حامد إلا أن وزّعهن على مدارس مكة معلمات، ولم يرفع مسوغات التعيين، بل لم تعلم الرئاسة عنهن شيئاً، وهذا رأي شخصي منه، وجهل بمسوغات التعيين.
وبعد ستة أشهر أو سبعة، والمعلمات الجدد يعملن، والرئاسة لا تعلم عنهن شيئاً، وبطبيعة الحال لم يصرف لهن مرتبات، كتبت جريدة البلاد السعودية وجريدة حراء وجريدة الندوة في أيام متتالية بعناوين مثيرة عن عدم تسلمهن مرتبات، ووصل الخبر عنهن لمسامع الملك فيصل - رحمه الله -، مع أنهن سعوديات، والمتعاقدات يصرف لهن رواتب، فلماذا؟ ومن المتسبب؟ وكان هذا بتساؤل منه.
فبعث الشيخ ناصر مندوبين إلى مكة لتقصّي الأمور بأقصى سرعة، فتلقّى فضيلته مهاتفة من رئيس المندوبين بالتفاصيل، مع تبرّمات أهالي مكة وأولياء الأمور من عدم صرف مرتباتهن، وهنّ يعملن من أول العام الدراسي، وبتداول الأمر استقرّ الرأي على تكميل مسوغات التعيين، على المرتبة الثامنة، التي تعادل حالياً المرتبة الثانية، وسرعة إنجاز ذلك، والعودة بالأوراق كاملة. وبعد إصدار قرارات التعيين يوزعن على مدارس مكة؛ لأن المدرسة الواحدة لا تتحملهن، أو الاثنتين، ولأن مصلحة الطالبات تقتضي ذلك.
وكَتَبَ الشيخ ناصر الرئيس العام لتعليم البنات للملك فيصل - رحمهما الله - بالتفاصيل، مقترحاً عليه أن يكون تعيينهن بالمرتبة الثامنة استثناء، ثم يتاح لهن العودة للدراسة بمعهد إعداد المعلمات المتوسط، وهنّ على وظائفهن للرفع من مستواهن التعليمي، وصُرِفَتْ مرتباتهن مجتمعة من تاريخ المباشرة. ومن أجل تغطية غلطة الأستاذ حامد فطاني فقد حصّلن المنفعة، ولم يؤنّب أو يجازى حامد فطاني؛ لأنه معذور ويجهل الأنظمة، وإنما طُلب منه عدم تكرار ذلك.
3- جابه الرئاسة مشكلات في الحصول على معلمات المادة في المرحلة المتوسطة والمرحلة الثانوية: كالتاريخ والجغرافيا والعلوم والرياضيات، ثم في الثانوي: الفيزياء، والكيمياء، والأحياء.
فلجؤوا إلى ما سموه معلمة الضرورة، فيؤخذ تخصص تاريخ أو جغرافيا للقيام بالمادتين سوياً، ومثل هذا العلوم والرياضيات، يؤخذ أحدهما لتدريس المادتين، أو تخصّص مختبرات، أو كلية الزراعة؛ ليسند إليها تدريس المادتين سوياً، وهكذا الفيزياء والأحياء والكيمياء، مع أن تخصص أحدهما بعيد عن المادة، ولكن لا يوجد غير ذلك.
ومثل هذا اللغة العربية والعلوم الدينية تسند المادة لغير تخصصها، بل قد يتم التعاقد مع تخصص بعيد عن كل هذه المواد: مثل علم نفس، علم اجتماع، إشراف اجتماعي، فلسفة ثقافة إسلامية، مع أن هذا التخصص بعيد عن فروع العلوم الدينية، واللغة العربية، والتاريخ والجغرافيا؛ ما أحدث ضعفاً في حصيلة الطالبات، ولكن تعسّر البديل، خاصة أن التعاقد من مصر تلك الأيام مقفل نهائياً، ومستوى تعليم المرأة في بقية الدول العربية ضعيفٌ جداً.
وللحديث بقية.