د.فهد بن دخيل العصيمي
«اسمي عبد الرحمن، أبلغ من العمر21 عاماً، طالب جامعي متفوق، ولم أكن أعاني من أي مرض جسدي أو نفسي حتى تلك الليلة المخيفة قبل سنتين خلتا من الآن.
فقد استيقظت منتصف الليل فزعاً مرعوباً، تكاد نياط قلبي تتقطع من سرعة خفقانه، مع ضيق في التنفس، وشعور بالدوخة والاختناق وخفة في الرأس،
وتعرُّق غزير، وتنمُّل وبرودة في الأطراف. ظننت أنها النهاية، فتشهدت، وسارع بي أهلي إلى أقرب إسعاف.. وبعد فحوصات متعددة، قيل لي أن قلبي سليم، ولا داعي للقلق. بعدها، تكررت نوبات الخفقان هذه بشكل لا يُطاق، وأصبحت ضيفاً ثقيلاً على أقسام الإسعاف وعيادات القلب والباطنة والأعصاب في عدة مستشفيات ومستوصفات أغلبها خاصة.. وغالباً، ما أنال مغذياً وريدياً لساعة من الزمن ثم يُقال لي: اذهب لبيتك فكل الفحوصات سليمة، وزاد أحدهم مرة فقال: اذهب لطبيب نفسي، ولم أتقبّل كلامه حينها لأنه قالها متململاً، بعد أن ضاق ذرعاً بكثرة مراجعاتي.. وبالطبع، لا تسل عن عدد عيادات الطب الشعبي، واستراحات الرقاة التي ترددت عليها، وبلا جدوى.
وقد أثّرت عليَّ نوبات الخفقان هذه، فأصبحت أتجنب الأماكن المزدحمة والمغلقة والمرتفعة، كالجامعة والمسجد والجسور والأنفاق، بل تجنبت كل مكان يشق عليَّ فيه الحصول على المساعدة أو الهروب منه لأي طارئ يصيبني. ثم قدمت اعتذاراً عن الدراسة، وأصبحت قعيد البيت، لا أغادره إلا لمامًا، وبشرط أن يصحبني قريب أو صديق. وقد ترددت كثيراً في الذهاب لطبيب نفسي.. وحذّرني بعضهم من الوصمة التي ستلحقني إلى الأبد إن فعلت ذلك! وحذرني آخرون من إدمان الأدوية النفسية وأعراضها الخطيرة حسب زعمهم!
وبعد لأي ومعاناة استمرت عاماً، حزمت أمري، وزرت طبيباً نفسياً حاذقاً، فشخَّص حالتي باضطراب الهلع مع اضطراب رهاب الساح (الميادين).. وقد تعلمت منه، أن هناك عوامل جينية وبيولوجية ونفسية اجتماعية تتضافر لإحداث تغيرات في (دارة الخوف) في الدماغ، وخصوصاً منطقتي اللوزة والحصين في الفص الصدغي من الدماغ، مما يؤدي لنشوء اضطراب الهلع؛ حيث يرافق نوبات الهلع تغيرات هرمونية متعددة منها إفراز مفرط لهرمون النورأدرينالين الذي يستثير أعضاء الجسم المختلفة فيؤدي لأعراض نوبة الهلع.. وقد طمأنني، أنه بالرغم من أن أعراض نوبة الهلع مزعجة جداً إلا أنها في الأغلب ليست خطرة أو ضارة بالجسم.. وبعد تناول الدواء، وحضور جلسات العلاج المعرفي السلوكي عند معالج نفسي، ولبضعة شهور، تحسنت بشكل تام بفضل الله تعالى، وعدت لممارسة حياتي بشكل طبيعي.. ومؤخراً، توقفت عن تناول الدواء، بعد مواظبتي على تناوله لمدة تصل لعام كامل؛ لتجنب انتكاسة المرض.
وها أنذا بعد مضي سنة من هذه المعاناة، أحمد الله كثيراً على تجاوز تلك المحنة، لكنني أتساءل كثيراً، لماذا يعاني أمثالي لشهور بل لسنوات دون تلقي الرعاية النفسية المناسبة؟! لماذا تنحصر خدمات الصحة النفسية في المستشفيات النفسية المعزولة، والتي يتجنبها الناس خشية اتهامهم بالجنون؟! لماذا تستمر وصمة المرض النفسي في مجتمعاتنا برغم التقدم التقني والحضاري؟!» انتهى.
وبعد: فما سبق من تساؤلات هو لسان حال كل من أُصيب بمرض نفسي يوماً من الأيام، وعانى طويلاً بسبب وصمة المرض النفسي؛ ولذا اسمحوا لي بالنيابة عن المهتمين بالصحة النفسية، أن أوجه الرسائل التالية:
1) لقادة القطاع الصحي:
لن يقلل وصمة زيارة العيادة النفسية مثل أن تدمج الرعاية النفسية في عيادات الرعاية الأولية والمستشفيات العامة. وكذلك، لا بد من إصلاح الهرم الصحي المقلوب لدينا، وفي مقدمة ذلك، تطوير مراكز الرعاية الأولية لتكون خط الصحة الأول الذي يبدأ منه أي مريض وينتهي إليه.. فمن مركز الرعاية الأولية، تبدأ الوقاية من الأمراض، وعلاج الأمراض الشائعة، وهو المناط به التحويل المؤقت للمريض للرعاية الصحية الثانوية والثالثية، وعنده حلقة الوصل لكافة هذه الاستشارات.. وقد أطنبت في وصف مشكلة الهرم الصحي المقلوب لدينا في مقال آخر عنوانه (اضطراب قلق الأمراض! والهرم الصحي المقلوب!).
2) للأطباء بشكل عام:
لا يخفى على شريف علمكم أن نظام التخصصات الطبية الدقيقة، ساهم في اختزال (بعض) الأطباء لمرضاهم في زاوية ضيقة، وأصبح تركيزهم ينصب فقط على استبعاد أي مرض شائع أو نادر ضمن إطار تخصصهم الدقيق. لكن ماذا عن معاناة المريض الطويلة؟.. ألا يستحق منا آذاناً صاغية تستمع بقلب حنون لمعاناته، وتدله بكل رفق على الحل الأمثل لمعاناته.. وهذا الدور يُعد أحد الأدوار السبعة المتوقعة من كل طبيب تجاه مريضه وهو دور (الناصح والمحامي لمريضه).. وما أحسن أن نقنع المريض بزيارة الطبيب النفسي عندما نرى حاجته لذلك، ونؤكد له أن ذلك لا يعني التقليل من معاناته الجسدية، ولا اتهاماً له بالتمارض، وإنما لأن اعتلالات الدماغ هي المسبب الأكبر لمعظم الأمراض النفسية، والدماغ هو سيد الأعضاء، ويتصل بكل أجهزة الجسم كهربائياً وكيميائياً.. ولا غرابة أن تتداخل النفس والجسد بشكل كبير جداً، مما يجعل نظرية ثنائية التضاد بين الأمراض النفسية والجسدية أمراً عفا عليه الزمن.
3) لقادة القطاع التعليمي:
آن الأوان لكي نضيف لمناهج التعليم العام مواد مكثفة حول الصحة العامة.. أليس من المنطق، أن نخصص أوقاتاً كافية لنعلم فلذات أكبادنا عن الأمراض الشائعة في مجتمعاتنا، ومنها مرض السكري الذي يصيب قرابة 25%، وأمراض القلق والاكتئاب التي قد تصيب 20% من عامة الناس.. ونعلمهم كذلك مثلاً، أن المصاب بالسكري معرض بنسبة ضعفين لثلاثة أضعاف لأن يصاب باضطراب الاكتئاب، والعكس صحيح وإن كان بدرجة أقل، وأن اضطراب الاكتئاب الجسيم يزيد معدل الإصابة بجلطات قلبية مميتة بمعدل ضعفين لثلاثة أضعاف... إلخ.. ولا شك أن ذلك سيساهم في تقليل الوصمة المرتبطة بالأمراض النفسية لدى الأجيال الجديدة.
3) لوسائل الإعلام:
أرجوكم كفوا عن إلصاق تهمة (مصاب بمرض نفسي) تجاه كل من يرتكب جريمة بشعة.. فهناك أكثر من 300 مرض نفسي تصيب قرابة ثلث عامة الناس، وليس من المعقول أن نعمم تهمة الإجرام والعنف على كل هؤلاء.. بل الصحيح، أن غالبية الجرائم الكبرى لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بالإصابة بالمرض النفسي.. ولذا، فلنسم الأمور بمسمياتها، فمن ارتكب جريمة كبرى فهو (مجرم) حتى يثبت غير ذلك.
4) للناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، وأهل الفن، وأصحاب التأثير:
أرجوكم كفوا عن استخدام لفظ (نفسية) لوصف كل من تَخَلَّق بخلق رديء.. ولنسم الأمور بمسمياتها، واللغة العربية غنية بالأوصاف: فهناك شخص ثقيل، أو جبان، أو بخيل... إلخ.. كما أدعو لتشكيل جمعيات تطوعية تُعنى بهذا الشأن، وتتواصل مع الجهات الرسمية كاللجنة الوطنية لتعزيز الصحة النفسية وغيرها من الجهات.
5) للمجتمع ككل:
من الخطأ تعميم الوصف لكل المصابين بأمراض نفسية، بأنهم (مرضى نفسيون)، وبالتالي هم مجانين بحسب انطباع الناس عنهم! والحقيقة أن الغالبية العظمى من المصابين بأمراض نفسية هم أسوياء العقل، وإن كانوا يعانون نفسياً. ولذا، أدعو هنا لتجنب استخدام لفظة (المريض النفسي)، تماماً كما أنه لا أحد يقول: المريض الباطني أو الجراحي أو الجلدي!!! وإنما نقول فلان المصاب بالسكري أو الربو أو الصدفية... إلخ.. فكذلك لنقل: فلان المصاب بالقلق أو الاكتئاب أو الفصام، فهو إنسان قبل كل شيء، ومصاب حالياً بشيء من المعاناة النفسية.
قفلة:
«لا يُوجد مريض نفسي ولا باطني، وإنما هو إنسان أُصيب بمرض ما، قد يكون اضطراباً ثنائي القطب أو الاكتئاب أو الهلع أو مرض السكري أو الربو... إلخ».
والله من وراء القصد.