طفولة أخي صالح لم تكن كأي طفل استمتع بطفولته حيث كان الوالد- يرحمه الله- يعتمد عليه كثيراً في إدارة شؤون المحل فكنا نخرج دائماً للاستمتاع بأوقاتنا وزياراتنا فيما كان صالح مشغولاً بإدارة وتشغيل المحل.. عندما كبرنا قليلاً كان صالح هو المسؤول عن متابعة تعليمنا ولم نشعر يوماً أنه أخونا بل هو بمثابة الوالد لنا. امتد كرم صالح حيث من النادر أن يمضي يوم دون أن تجد له أثرا في منزل الوالدة (أم صالح) والخالة الغالية (أم يوسف) وإذا وجدت شيئاً في المنزل عرفت أن صالح (مر من هنا). ومن النادر أن تخلو سيارته من الأغراض فيصر -رحمه الله- على توزيعها على الجميع، بالرغم من أن الفارق في العمر الذي يفصلني عن (صالح) 3 سنوات، أشعر دائماً أنه بمقام الوالد حيث لا أكاد أصل لأي وجهة في أسفاري المتعددة إلا جرس الهاتف يشعرني بـ(صالح الجدعي يتصل بك) للاطمئنان على وصولي وعرفت لاحقاً أن هذا ديدنه مع جميع إخوتي وأنسابي. حاولت أن أختزل مناقب صالح في عدة نقاط فلم ولن أستطيع لأنه- يرحمه الله- صالح الكرم، والتسامح، والطيبة، والإيثار, والحب، والإخلاص، والصبر، والتواصل. كانت علاقته مع أقاربي أنموذجا يحتذى به وكانت علاقته بجدتي لأمي (أم علي) الشبعان هي الأقوى بيننا نظراً لعدم رؤيتنا لأجدادي من أبي -يرحمهم الله جميعاً-. اكتسب أخي صالح من خالي الغالي (علي الشبعان) صفات حميدة وكان أقربنا له ولجدتي فكان- يرحمه الله- يتواجد يومياً في منزلها وكان من محبته لفعل الخير يتولى يومياً توزيع اللبن والحليب التي تعدها جدتي -يرحمها الله- على من يرغب من الأصدقاء وأذكر أنني أحببت صديقاً له يدعى حسين العطالله لأنه كان يؤمن له العلب الفارغة للتعبئة وازدادت محبتي لهذا العزيز بعد معرفتي له عن قرب. في علاقتنا مع إخوتي غير الأشقاء أخي الأكبر (علي)- يحفظه الله- وخالتي وهي بمقام الوالدة (أم يوسف)، والأعزاء يوسف وفهد وسامي وراكان وتركي وفيصل ويزيد وشقيقاتهم الغاليات لم نشعر يوماً بأننا غير أشقاء، وهذا بفضل الله ثم جهود الوالدين ويأتي الدور البارز لـ(صالح)- يرحمه الله- في التواصل ولعل ما قام به الأخ (فهد) الله يجزاه خير الجزاء في مسيرة صالح مع المرض خير شاهد. في مرض الوالد -يرحمه الله- كان لأخي صالح مواقف متعددة من التضحيات لا تحصى فكنا نحدد أياما لجميع الإخوان لمرافقة الوالد سواءً في البيت أو في المستشفى وكان صالح- يرحمه الله- هو اركن الثابت دائماً). وأذكر في أحد الأيام وهو يوم الأربعاء (يوم وفاة الوالد)- يرحمه الله- كنت أنا الموكل بالمهمة فاستأذنت باكراً من عملي وفي الطريق اتصلت على (كنترول العائلة) صالح فأخبرني بأنه متواجد مع الوالد في المستشفى فرجاني ألا أحضر والذهاب للراحة في البيت فاعتذرت منه وذهبت للمستشفى وبعد جلوسنا قليلاً استأذن لوجود اختبار لديه في المدرسة وذهب وبعدها بلحظات نظرت من النافذة فشاهدته يهرول مسرعاً للحاق بعمله. عندما اختار المولى سبحانه الوالد إلى جواره قبيل العصر حضر إخوتي جميعاً لوداعه وتم نقله لثلاجة الموتى وكان صالح -يرحمه الله- أكثرنا تأثراً فلم تستطع قدماه حمله وسقط يقبل جبين الوالد في مشهد مؤثر لنا جميعاً. بعد وفاة الوالد -يرحمه الله- اقترحت على الإخوان جميعاً تقديم هدايا رمزية كعربون وفاء من الوالد- يرحمه الله- لجميع العاملين والعاملات في القسم فأعجب صالح- يرحمه الله- بالفكرة وأصر على تحمل جميع تكلفة هذه الهدايا. ولصالح قصة مع المرض تستحق أن تحكى كأنموذج في التوكل على الله، الصبر والاحتساب والرضا والقبول لقضائه وقدره. كان قبل اكتشاف المرض يشتكي من صداع مزمن امتد معه طويلاً وكان صابراً محتسباً ولم يتم تشخيصه بدقة، وفي أحد الأيام (قبل سنتين تقريباً) ذهب مع أخي يوسف (-حفظه الله وجزاه خير الجزاء-) إلى مستشفى الحبيب في بريدة وبعد مشاهدة الأشعة أخبر الطبيب أخي يوسف بوجود ورم كبير فطلب أبي همسا من الدكتور عدم إخبار صالح بالأمر، فأصر الدكتور على إطلاع صالح على نتائج الأشعة، فلما حضر صالح وأخبره الطبيب كانت مشاعر يوسف وجلة من ردة فعل أخي صالح فقال بعدها عبارة تدل على أسمى معاني الرضا بالقبول والقدر. (اللي يجي من الله حياه الله). وطلب الدكتور من صالح ضرورة سرعة إجراء العملية في الغد وكانت احتمال نتائج العملية على النحو التالي: نجاح العملية أو فقدان وظائف الرأس (سمع - نظر إلخ..) أو الوفاة. وتقبل صالح الأمر بكل إيمان بقضائه وقدره. أجريت العملية وخرج صالح معافى- ولله الحمد- وتم إرسال العينات للرياض لفحصها وتم إخبارنا بأن الورم سرطاني من الدرجة الرابعة وتم حجز موعد له في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض فذهب برفقته الأخ (أحمد) الله يكثر من أمثاله فيروي أحمد القصة لحظة لقاء الطبيب حيث أخبره بأن العمر الزمني المتوقع للحياة لمثل هذه الحالة من (8 - 12) شهراً فيقول أحمد انتظرتوقع الموقف على صالح بعد إخباره فلم يتأثر مطلقاً وظل يدعو الله حتى ذهبنا للسكن فقلت كنت أنتظر انهياره نفسياً في أي لحظة، فظل يقوم الليل يومياً ولم يكن ينام سوى ساعتين في اليوم ويقضي جل وقته في الذكر وقراءة القرآن واستمر بقاؤه في أخذ الأشعة لمدة شهرين ونصف، كان الإخوة جميعاً يترددون عليه، وكان أكثر الملازمين له الحبيب الغالي (أخي فهد). بعد ذلك اتضح تأثير التعب عليه وأخذت حالته تسير للأسوأ وذهب في زيارة لجمهورية مصر برفقة الأخ فهد مرتين وأجريت الأشعة اللازمة وكانت تشير إلى ضمور الورم وعند حضور الدكتور لإخبار صالح بالنتائج بقوله (مبروك) فكان رد صالح عليه ألا تقل مبروك وقل مبارك (الأصح لغوياً) بكل إيمان بالقضاء والقدر والتوكل على الله في أحلك الظروف. استمر صالح- يرحمه الله- في التسليم بقضاء الله وقدره مع المرض بكل صبر واحتساب فكان يداوم على القراءة والذكر وكان يقول- الحمد لله- أن ما أصابني كنذير للمسلم ليستزيد من فعل الخير والطاعات (يروي الشيخ أبو معاذ الشنقيطي (صديق الأخ فهد) من المدينة المنورة بعد وفاة صالح بيوم أمور تثلج صدر كل من يحبه حيث أخبرنا أنه ظل مرافقاً للأخ صالح في كثير من سفراته سواء للعلاج أو لمكة أو المدينة بأن صالح ظل ملازماً للقرآن وكان- يرحمه الله- يختم قراءة القرآن كل يومين تقريباً.. وقد قال الشيخ أبومعاذ الشنقيطي قصيدة معبرة عند إقفال ملف الأخ صالح في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض كمواساة ودعم معنوي قال فيها:
لحن الخلود جميل أينما عزف
والنفس يطربها إن جاء مزدلفا
يحدو لها نغماً في كل منعطف
طوى الفناء به الأنفاس والصحف
لحن الخلود هوى للروح يسكنها
لكن صلصالها في البين قد هتف
تغتال رونقها الأيام في سرف
لتطلق الروح من سجن غدا دنفا
كم نسمة سعدت وطاب موردها
يوم اللقاء ولم تعبأ بما سلف
لا تأس ياصالح الأيام مبرمة
وحسبنا الله في دفع البلا وكفى
يروي الأخ أحمد أحد المواقف في إحدى المراجعات في الرياض وكانا في منزل النسيب الشهم الكريم (علي المطلق) وأختي الغالية أم هنوف (واللذان قدما للوالد- رحمه الله- ولأخي صالح- يرحمه الله- مواقف مشهودة) أنه كان ينام معه في الغرفة ومع تطور المرض أصبح غير قادر على تحريك الجهة اليمنى نسبياً فكان- يرحمه الله- يقوم في منتصف الليل ويستند على الجدار للوضوء والصلاة وكان في أحلك الظروف لا يريد أن يثقل على أحدنا في طلب أي أمر يروي أخي الحبيب (عبدالله) أننا جميعاً نتأثر أشد التأثر من وضع صالح الصحي ونظل نتوجس عند لقائنا به فإذا هو من يمنحنا الأمل والرضا بالقضاء والقدر وأنه سعيد بأن الله قد منحه هذه الفرصة كدليل بأن الله يحبه. كان- رحمه الله- مضرباً للمثل في الكرم والجود حتى في أحلك الظروف وأتذكر موقفاً في منزل الخالة الوالدة (أم يوسف) بأننا فرحنا بحضوره لها بعد إحدى سفراته العلاجية بالرغم من تعبه الشديد، وكنا نحرص على تهيئة جميع السبل لراحته فقمنا بدعوة (الرجل الشهم الحبيب صاحب المواقف المشهودة صديقه المقرب الوفي خالد محمد العايد) لأنه يرتاح في مجالسته كثيراً ونحن كذلك فطلبنا من الأخ خالد مشاركتنا العشاء فرحاً بمقدم الأخ صالح ويصر- رحمه الله- مع تعبه الشديد ويهاتف الابن (محمد) -يحفظه الله- ويطلب منه إحضار العشاء لجميع من في المنزل من حسابه الخاص. وفاء صالح مع والدتي لا يوصف حيث كان دائم الحضور يومياً لمنزلها في معظم الأوقات ولا تخلو يده من احتياجات المنزل وكان- يرحمه الله- دائماً يسامرها في القصائد للترويح عنها، وظل وفياً لها حتى في أحلك الظروف وأذكر آخر مواقفه أنني كنت برفقة الأخ أحمد عند الوالدة، وكان معظم الإخوان والأخوات في سفرفاتصل- يرحمه الله- بالأخ أحمد يطلب منه الحضور لرغبته في لقاء الوالدة، وكان الغالي أحمد على موعد خارج المحافظة فطلبت منه أن أتولى المهمة فذهبت لمنزل الأخ صالح- يرحمه الله- فجلسنا سوياً وكان في حالة من الإجهاد الشديد ومع مرور الوقت لم أود أن أثقل عليه في الذهاب، وقد تكون الوالدة قد ذهبت للنوم والساعة كانت تقارب الحادية عشرة ليلاً فطلبت منه تأجيل ذلك حتى الغد (شفقة عليه) ونذهب من الغد باكراً وللأسف تدهورت حالته من الغد وأدخل للعناية المركزة في غيبوبته الأولى وللأسف لم ير الوالدة بعدها.
أدخل العناية المركزة في مستشفى الرس العام وللأسف مع عدم وجود دكتور متخصص في المخ والأعصاب تدهورت حالته الصحية فتم نقله للمستشفى الوطني في بريدة ويوماً بعد يوم بدأت تتحسن حالته الصحية وكان مضرب المثل في الصبر والاحتساب فكان يردد دائماً- الحمد لله- ويمازح كل زائريه بروح مرحة رغم ما يشعر به من ألم. خرج- رحمه الله- من المستشفى بناءً على طلبه، وكان من المقرر العودة بعد أسبوع لعمل أشعة أخرى ولكنها إرادة الله فجلس في منزله ما يقارب الأربعة أيام استقبل فيها جميع أحبابه وعائلته وكأنها الوداع الأخير وبعدها تراجعت حالته الصحية وأصيب بنزيف حاد ودخل في غيبوبة أخرى فتم إدخاله للعناية المركزة في الرس. ومع الأسف أيضاً لم يكن هناك في المستشفى دكتور مختص في جراحة المخ والأعصاب فتمت المحاولات من جميع الإخوان لنقله لبريدة ولكن مع حضور دكتور من بريدة والتواصل مع مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض بنظام الدائرة التلفزيونية أفاد الجميع باستحالة نقله لما يشكله من مخاطر كبيرة لتفاقم أزمته الصحية فتم القبول والرضا بما كتبه الله ومع الإيمان التام بقضاء الله وقدره ودعوات المخلصين التي كانت تحفه في كل وقت أسلمت روحه الطاهرة لربها في تمام الساعة الواحدة من فجر يوم الاثنين الموافق 30 / 11 / 1436 للهجرة لتنتهي مسيرة نادرة من الصبر والكرم والإيثار والحب الذي لا يمكن وصفه ولتبدأ صفحة جديدة له مع لقاء ربه سبحانه وتعالى على أكمل وجه، ومع غمرة الأحزان تفاجأت صباح يوم وفاته برسالة مفادها تقرير عن مشروع جامع (صالح بن محمد الجدعي) في بوركينا فاسو والذي افتتح قبل وفاته- يرحمه الله- بما يقارب الستة أشهر (تلك هي الخبيئة)، ما أروعك أيها النادر وأنت تقدم لنا دروساً من العمل الصالح في يوم وفاتك. يبقى أن أقدم الشكر للزوجة الصالحة الصادقة الوفية التي وهبت نفسها لأخي صالح تلك هي (منيرة بنت حمد الرميح). شكراً من القلب لتلك المرأة الوفية على ما قدمته لصالح من تفان طيلة حياته وفي أحلك ظروف مرضه حتى يوم وفاته ولن نوفيك حقك من الشكر. شكراً لوالديك الوالد الغالي حمد الرميح والوالدة الغالية على حضورها المستمر للزيارة مع ظروفها الصحية شكراً لعائلة الرميح النبيلة. شكراً للغالي صالح الرميح صديق العمر لصالح. وإلى بناتي وأبنائي الأعزاء لجين، شادن، محمد، نواف، جوان، لتين، غداف، وريس، أباكم لم يمت وقد ورث فيكم المحبة والإخاص. أسأل الله العلي القدير أن يحفظكم بحفظه وأن يرحم والدكم فقد كان أنموذجاً في التربية والعطف.
سليمان بن محمد الجدعي - محافظة الرس