سلمان بن محمد العُمري ">
في هذا العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - تتواصل الجهود العظيمة والبارزة في خدمة الإسلام والمسلمين في كافة أنحاء العالم فقد كانت المملكة العربية السعودية ولا زالت أول المتبنين والداعمين لمشاريع الخير التي تنطلق من هذه البلاد المباركة وكانت لها اليد البيضاء في بناء المساجد والمراكز والمستشفيات والمبرات ودور الأيتام وطباعة الكتب وبرامج الحج، وكانت لها المواقف والبصمات في خدمة الأمة، والأعمال الجليلة المشهود له بها عند المسلمين لا تعد ولا تحصى.
وإذا كانت الشهادات الصادقة التي انطلقت في التعبير عن الإشادة بالأعمال العظيمة كتوسعة الحرمين الشريفين، وطباعة المصحف الشريف، وخدمة الحجيج فإنه في مقابل ذلك هناك أصوات ناشزة وشاذة عن القاعدة والإجماع لا يسرّها ذلك، ويسوؤها ويغيظها التقدير العالمي في الإشادة بجهود المملكة فحسب بل تسعى إلى التشويش والإساءة والتطاول.
قراءة عابرة لتاريخ المملكة العربية السعودية، توضح بجلاء أن من أعظم أهداف الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل ـ طيب الله ثراه ـ، هو تأمين الحرمين الشريفين، وتهيئة بيت الله الحرام لضيوف الرحمن من حجاج وزوار ومعتمرين، عملاً بقول الله ـ تعالى ـ: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
العناية بالحرمين
ومن أهم مظاهر عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين: العمل على توسعتهما, وزيادة مساحتهما، ورفع قدرة استيعابهما؛ ليؤدي الحجاج والمعتمرون والزوار مناسكهم في يسر وطمأنينة، وفي أجواء ميسرة من التكييف، والفرش، ووفره المياه، وغير ذلك. وقد شهد الحرمان الشريفان، والمشاعر المقدسة منذ تأسيس المملكة العربية السعودية توسعات لم يشهد التاريخ الإسلامي نظيراً لها. وليس المقام مقام تفصيل لذلك، فهو يحتاج إلى بحث مستقل، لكننا سنقف وقفة موجزة مع المشروع الحالي لتوسعة الساحات الشمالية والمطاف، وهما المشروعان اللذان يعدان أكبر مشروع توسعة في تاريخ الحرم المكي.
أولاً: توسعة المساحات الشمالية
يتوقع أن يبلغ مجموع المساحة الكلية للساحات الشمالية بعد التوسعة 709,460 متر مربع، شاملة مبنى التوسعة والساحات، والجسور، والمصاطب. ويتوقع القائمون على التوسعة أن يصل حجم المساحة المبنية لمبنى الخدمات المصاحب إلى 321,400 متر مربع، كما توقعوا أن يصل إجمالي المساحة الكلية لساحات التوسعة التي تحتضنها جسور مبنى التوسعة إلى 68,750 متر مربع. أما المساحات المبنية للجسور فمن المتوقع أن يبلغ حجمها 56.660 متر مربع. وستكون التوسعة في تسعة أدوار، وتشتمل على 54 بوابة، كما ستشتمل على 16 جسراً لتوزيع الحشود، ومنع الازدحام، إضافة إلى تسع مظلات من الحجم الكبير، وثماني بطاريات للسلالم الكهربائية، كل بطارية تضم أربعة سلالم كهربائية.
وسيجري العمل على إضافة حمامات، ومواضئ تحت الساحات الجديدة تتناسب مع الأعداد المتوقعة للمصلين، وزائري المسجد الحرام، تتكون من 16 مجمعاً، تضم 2400 حمام.
ويتضمّن المشروع توسعة صحن المطاف بهدم التوسعة العثمانية، وتوسيع الحرم من الجهات الثلاث، وقوفا عند المسعى؛ لأن المسعى ليس من الحرم، وتوسيع الحرم من جهة أجياد، كما تتم تعلية أدوار الحرم؛ ليصبح أربعة أدوار، مثل المسعى الجديد، تم تعلية دورين مستقبلا، ليصبح إجمالي التعلية ستة أدوار.
وستبلغ الطاقة الاستيعابية للساحات الشمالية بعد اكتمال التوسعة حوالي 766,600 مصل. وهي طاقة استيعابية تعادل، أو تزيد على الحرم الحالي، بتوسعاته وساحاته عبر التاريخ.
ثانياً: مشروع توسعة المطاف
تبلغ الطاقة الاستيعابية للمسعى حالياً 48 ألف طائف في الساعة. وبعد التوسعة التي يجري العمل عليها بجهود مضاعفة على مدار الأربع والعشرين ساعة، حتى بلغت الطاقة الاستيعابية 150 ألف طائف في الساعة.
ولا يخفى على أي واحد ما تدل عليه الأرقام السابقة من أن الحرم المكي الشريف، والمطاف، يشهدان عملاً يساوي، أو يزيد على كل الأعمال والجهود التي بذلت في خدمتهما عبر التاريخ، وأن النتائج والثمار المرجوة بإذن الله تعالى من هذه التوسعة، تساوي، أو تزيد على كل الثمار والنتائج التي أثمرت عنها كل التوسعات السابقة في تاريخ مكة المكرمة.
وإذا كان هذا المشروع العظيم بهذه الضخامة والحجم، فإني أترك للقارئ الكريم أن يتخيل ما هي الجهود والأعمال التي تدور في الحرم الشريف على مدار الساعة بواسطة عشرات الآلات، والمعدات التي صنع بعضها خصيصاً لهذه التوسعة، وبواسطة آلاف من العمال المتخصصين من جميع أنحاء العالم؟!
كما أترك له أيضاً أن يتصور: كم سيتكلفه هذا المشروع من مليارات الدولارات؟ وكم ستبلغ ميزانيته المفتوحة للإنفاق عليه؟!!
والغرض مما تقدم إبراز بعض من الجهود العظيمة، والأموال الطائلة التي تنفقها في سبيل خدمة ضيوف الرحمن، من حجاج ومعتمرين، وزوار؛ أداء للأمانة الضخمة التي حملها إياها رب العالمين، بجعلها راعية المقدسات الإسلامية، وسادنة بيت الله الحرام، لا تريد من ذلك إلا رضا الله عز وجل ولا تريد من أي دولة أن تساعدها بشيء؛ لأنها قادرة والحمد لله على أداء الرسالة على الوجه الكامل، بعون الله.
إن قيادة بلادنا الرشيدة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله لا يألون جهداً في سبيل خدمة الحجاج والمعتمرين، والخطأ لا يسلم منه أحد، وهم من أحرص الناس على أن يسير الحج وفق الخطط المدروسة التي يحفظ الله بها أمن الحجاج وسلامتهم، ومع ذلك هم أشد ما يكون على أهل التقصير والتهاون فهم أهل الحزم والعزم لا يتهاونون مع المقصر وإن كان أرفع الناس منصباً، وقد رأينا ذلك في عدّة وقائع، وقد وجَّه خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، الجهات المعنيَّة بمراجعة الخطط المعمول بها في الحج والأدوار والمسؤوليات المنوطة بمؤسسات الطوافة والجهات الأخرى، مُشدِّداً على وجوب بذل كافة الجهود لرفع مستوى تنظيم وإدارة حركة ومسارات الحجاج بكل يسر وسهولة، وأكد خادم الحرمين الشريفين عدم تقليل حادث التدافع في منى مما يقوم به منسوبو القوات العسكرية بقطاعاتها من أعمال جليلة لخدمة الحجاج وتمكينهم من أداء مناسكهم، موضحاً أن تطوير آليات وأساليب العمل في موسم الحج لم ولن يتوقف بغض النظر عمَّا يظهر من نتائج التحقيقات.
وإذا كنا نتوقع من الأعداء والحاقدين المتربصين نشر الإشاعات والأكاذيب والإساءة والتطاول فإننا نربأ ببعض أبناء البلاد ممن ينساقون خلف الشائعات دونما وعيٍ وإدراك ويتّهمون الجهات العاملة بالتخاذل دونما سند وبرهان، لست ضد إبداء الرأي مادام في فلك الاعتدال ودائرة المباح، فقد أبدى كثير من الناس آراءهم في هذه الحادثة وهذا لا حرج فيه، إنما الحرج في الافتيات على ولاة الأمر وركوب موجة النقد بالباطل ثم تكون هذه الموجة تصب في صالح أعداء هذه البلاد وأعداء ولاة أمرنا، وكان الواجب على الناقد أن يكون بصيراً، وأن لا يلقي كلامه على عواهنه فيستغلّه أعداؤُنا لضربنا بولاة أمرنا، وبث حالة من الخوف وعدم الثقة، فهذا ليس من النصح في شيء وفي العصر الحاضر شكّلت بعض الظواهر الاجتماعية السلبية في النشر مخاطر على المجتمعات لسهولة انتقال الأخبار عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وأجهزة الاتصال الحديثة وقلّ ما يصل من هذه الأخبار من دون زيادة أو نقصان إن لم تكن هده الاخبار مغلوطة في سياستها ومكذوبة من نشأتها، وفي الأحوال العادية لا يخفى ما تسببه هذه الأكاذيب والأراجيف من أضرار اقتصادية واجتماعية وأمنية وصحية، ومن المؤسف حقاً أن نرى ونسمع عن بعض من يتناقلون الأخبار التي ليست في مجالهم واختصاصهم فحسب، بل و»يغرّدون» بها وكم كذبة شاعت وانتشرت في أوساط المجتمع بسبب الاستعجال والاندفاع وعدم التثبت، ومع كثرة مستخدمي برامج التواصل الاجتماعي أصبح الناس يتناقلون الأخبار دونما تثبت وروية وكأنّهم في سباق محموم للفوز بمن ينشر الخبر والمعلومة أولاً، والله ـ سبحانه وتعالى ـ حذرنا من الانسياق مع الأخبار الزائفة بتصديقها فكيف بنشرها وتعميمها يقول ـ تبارك وتعالى ـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم، ويحذر نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من آفات اللسان ويطالب المسلم بصونه وحفظه فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري.
وأعداء الأمة حينما يريدون إثارة الاضطراب والقلاقل يلفقون الأخبار ويتلقفها السذج ويصدقونها بل ويتسابقون في نشرها وهذا بقدر ما فيه من الإثم بنشر الكذب فإن فيه إثم عظيم إذا ما ترتب عليه ضرر بفرد أو جماعة فكيف من يضر بلاده وأمته بنشر الأخبار دونما تثبت والانسياق خلف الإشاعات، ولذا فيجب أن نكون جميعاً على يقظة وألا ننساق وراء المغرضين والحاقدين الذين يحسدوننا على ما نحن فيه من أمن وأمان ويتمنون زوال هذه النعمة عنا، إنّ من يسارعون في نشر الشائعات أو التسرع بالحكم والانتقاد لما جرى في هذه الحادثة، يعضدون أعداء هذه الدولة المباركة في نقدهم غير البنّاء لجهود الدولة المبذولة للحجاج ويقفون مع أعداء الملة والدين والوطن من أهل الملل والنحل الباطنية وأحزاب الشياطين، والبعض يرتضي أن يكون إمعة يسير بغير إدراك ووعي.
لقد سخّر قادة هذه البلاد المباركة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ـ حفظه الله ـ وحكومته الرشيدة الراشدة لخدمة بيته الحرام، ومسجد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأمّنت السبل، ويسّرت الوصول إلى الحرمين الشريفين، وهيّأت كل ما فيه تيسير أداء مناسك الحج والعمرة لضيوف الرحمن، وهم حريصون كل الحرص على ألا تكون فريضة الحج ميداناً للمهاترات، والمساومات، ورفع الشعارات الجاهلية، والسعي لتحقيق مصالح خاصة، وأهداف معيّنة، أو استغلاله لأغراض وأجندات سياسية، أو دعوة مذهبية مقيتة، أو غير ذلك من الأهداف والمقاصد السيّئة التي تصرف الحج عن وجهته الشرعية، وتجعله بعيدا كل البعد عن قدسيته وروحانيته، وأن الله تعالى جعل الحج مناسبة عظيمة للوحدة والتضامن بين المسلمين كافة، وتجسيد معنى الأمة الواحدة، ليكون اجتماع الحجاج في هذه المشاعر المقدسة سبباً في تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، وتعارف بعضهم على بعض، وتقوية أواصر المحبة والمودة بينهم، ويبذلون الغالي والنفيس لاغتنام فرصة الحج لتحقيق هذا المقصد العظيم، وهذه الغاية الشريفة، وجعله سبيلاً للتلاحم والتعارف والوحدة والتضامن بين المسلمين.
لقد أرسى الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - أُسُس هذه الدولة، ووحّدها على هدى الشريعة الإسلامية، فكانت الوحدة بدل الشتات، والألفة بدل العداء، والتعاون بدل التنافر، وأصبحت المملكة وطن الاستقرار في محيط مضطرب بالفتن والحروب. لذلك فإن التحدي الذي يواجهنا هو المحافظة على هذه الوحدة الوطنية وتعميق مضامينها والوقوف صفاً واحداً مع ولاة الأمر ضد من يريد المساس ببلادنا قولاً وعملاً ويريد الإساءة إليها وافتراء الكذب والأقاويل الباطلة، وفي هذا العام صادف اليوم الوطني هذه الأيام المباركة ونحن نستقبل ضيوف الرحمن ونعمل جاهدين بكل طاقاتنا لتهيئة لهم أجواء الأمن والراحة والطمأنينة؛ ليؤدّوا مناسكهم بكل يسر وسهولة وقد أنعم الله على ضيوفه بهذه النعم منذ أن قاد الملك عبدالعزيز ملحمة توحيد هذا الكيان الذي كان ممزقاً ومتناحراً لا يأمن أحداً على حياته لذلك يجب علينا الحرص والتكاتف للحفاظ على أمن ومكتسبات وطننا الغالي وبالذات في ظل الظروف الإقليمية التي تعصف بمن حولنا ولتكون لنا عبرة نستفيد منها لنكمل مشوار أبائنا وأجدادنا الذين ضحوا بأرواحهم تحت قيادة المؤسس لننعم نحن بهذا الأمن الوارف الذي نغبط ونحسد عليه من كافة سكان المعمورة.