مجموعة زامر الحي لأحمد إسماعيل زين ">
القصة القصيرة والتجريب.. قضية بدونها تموت كل الفنون. أن نأتي بالجديد من داخل بنيانه.. وتنحت وتجرب لتقدم نصك جديد والمختلف. وكما قال الروائي المصري منير عتيبة: الإبداع لا يقتصر على الفكرة.. بل كيف تقدّم فكرتك. إذاً المسألة مسألة كيف؟ فإذا استمرأنا تكرار وتقليد أساليب من سبقونا فإننا ندور في دائرة مغلقة.. ولا يعتد بما نقدم.
الشاعر عبدالله البردوني برز بين شعراء القافية على المستوى العربي بالكيف. وظل مخلصاً للمقفى من الشعر في الوقت الذي فرّ الجميع إلى فضاء التفعيلة والحر. وتميز البردوني قدرته على تطوير القصيدة المقفاة من الداخل وتطويرها وتقديم الجديد والمختلف. فهل سيظهر على ساحة القصة في الوطن العربي من يطور القصة من الداخل دون هجرها إلى أفاق العجز. ليجترح لنا نصاً سرديّاً مختلفاً؟
أحمد إسماعيل زين.. مسرحي وقاص سعودي يعشق القصة ويخلص لها.. التقيته في مدينة الناظور المغربية مشاركاً في ملتقى القصة 2013م
وكان لي نسخة من مجموعته القصصية «زامر الحي» الصادرة عن نادي جازان الأدبي 2009. ضمت ما يزيد عن عشرين نصاً قصصياً.
قرأت مجموعة زين كمتذوق.. باحثاً عن ما يميز تلك النصوص. التي تعالج في معظمها مواضيع اجتماعية.. مثل الزواج بالإكراه.. الموت.. العلاقات العاطفية.. الجنون.. الشريد.. السجين.. الوظيفة.. المتهم. .. وهكذا بقية قصصه.
وما شد انتباهي جانب فني وليس موضوعي.. يتمثّل في تلك النهايات التي تنبئ ببداية عقدة لنص محتمل.. فمعظم نصوص المجموعة تنتهي بعقدة.. هي ليست عقدة المنتصف.. تحل بديلاً عن لحظات التنوير.. في الوقت الذي يصنفها البعض بالنهايات المفتوحة.. وبدوري أقول إن النهاية المفتوحة عادة ما تأتي هادئة.. وقد تمثّل عجزاً لدى الكاتب في التخييل.. ما أنجرحه زين أكثر من ذلك.. تلك النهايات تقارب في الوقت نفسه نهايات بعض نصوص مواطنه القاص أحمد القاضي في مجموعته المتميزة «قناديل زيتها أغنية» التي قدم نصوصًا الغى فيها عقد الوسط.. ليقدم نصاً من كتلتين دون وسط. مكتفياً بالبداية والنهاية.
وعند زين نجد أن النص من ثلاثة أجزاء البداية والوسط والنهاية.. إلا أن النهاية هنا تحمل عقدة.. لتثير تساؤلات مطلقة للقارئ عنان التخييل ليخلق نص ذهني مكمل لنص زين التحريري.
وهنا أطرح ملاحظة صغيرة.. الكاتب إن كتب عن وعي فذلك يحسب له.. كون البعض يحسب التجريب قفز في الظلام. وأجزم بأن زين يعي ما كتب.
وكما ذكرت البردوني وتجديده للقصيدة العمودية من الداخل أذكر هنا زين رغم البون الشاسع بين الكاتبين.. لكن في النهاية الجميع على قارعة الإبداع.. خاصة ومجموعة زين أولى مجاميعه القصصية.. ومع ذلك لا يمكن أن نغمطه حقه.. بتجديد النص القصصي من داخل بنيانه.. كما هو القاضي.
وسأستشهد هنا ببعض النهايات التي عنيتها بالنهاية العقدة. أو النهاية المشروع لنص جديد.
بداية بالأسطر الأخيرة من نص بعنوان الروشان: جئت في اليوم التالي للموعد المحدد في المكان الذي تراني أجلس فيه أنتظر رسالتها إلى غروب شمس ذلك اليوم ولم يرمَ إلي شيء من الروشان. مضى الأسبوع الأول فالثاني مر شهر وعقبه شهر.. وآخر ما سمعته أن عائشة لن تعود!
وفي النص يأتي صوت عائشة من الروشان مع بداية النص الذي يعلو مكان تعود الجلوس فيه، تطلب منه أن يسمعها.. خاف أن يسمع صوتها أحد المارة وطلب منها أن توافيه في اليوم التالي في نفس الوقت.. بدورها قالت بأنها ستكتب له ما تريد قوله وتسقط الورقة في نفس الموعد عليه. لكنها لم تفي بوعدها.
لتأتي النهاية مبهمة.. ومعقدة.. تطرح أسئلة ولا تورد إجابة.. فما مصير عائشة؟ وماذا كانت تريد قوله؟ هل كانت في خطر وتريد من ينقذها؟ أم أن المسألة إعلان عاطفتها تجاه ذلك الشاب؟ هل تم قتلها لأمر يمكننا تخيله؟ في مجتمع ذكوري المرأة فيه هامش أو حلقة وصل بين القرد والإنسان من حيث المكانة لا من حيث نظرية داروين.
النهاية العقدة التي تدعو القارئ إلى تخيل نص ذهني مكمل لما جاء.. تدفع المتلقي لنسج تخييلي لما يمكن أن يكون مصير عائشة.. ثم ماذا كان في صدرها من كلام؟
نهاية نص آخر بعنوان ساعات الغروب. قصة تدور حول رغبة أب في تزويج ابنه.. بعروس اختارها له.. رافضاً إحساس ابنه تجاهها بالإخوة والفرق العمري بينهما.. فهو أصغر منها. وكان حديث والده إليه عند غروب الشمس. ونص النهاية: صمتُ محققاً رغبته، وسارت ساعات الغروب في نظري ذكرى لا أستطيع نسيانها.
ما تثير تلك النهاية عدة أسئلة.. منها: كيف سارت العلاقة بين الزوجين؟ ولماذا يرضخ الشاب لرغبة أبيه.. بعد أن تعودنا أن من تغصب هي البنت؟ تلك النهاية العقدة تبدو كما لو كانت بداية لصراع درامي قوي.. كما تدفع للتفاعل بين حدث وآخر.. وكما هي النهاية في نص روشان هي في نص «غروب الشمس» تترك لخيال القارئ مساحة التحليق متخيلاًَ نصاً آخر من وحي تلك النهاية.
وبالإضافة إلى تلك النهايات نورد استشهادات أخرى من نصوص: جنون، صفعة، وهم، حيرة، محضر تحقيق, زامر الحي.
ونواصل مع «جنون»: أقترب أكثر منهما - طفلته وزوجته الراحلتين - شعرت بيد تمنعني بقوة من الجلوس معهما.. التفت بحدة للماسك بي، فإذا به حارس الحديقة... يقبض بيده الأخرى على ملابسي ويدفعني إلى خارج الحديقة!
ونهاية نص آخر.. صفعة: استمر يتصل ليسمعها أحلى قصائد الحب وكلمات الغزل، حتى اقترب موعد (الدخلة)، اتصل بها وخرجت معه لشراء غرفة النوم، لكنها رجعت وأصابعه مرسومة على خدها!
ثم نهاية نص وهم: أنظر إليه مبتسماً وأعيد علبة سجائري إلى جيبي وأمضي.. ولكن لا أدري إلى أين!
ونهاية حيرة: كانت ليلة باردة هادئة.. جعلت من الطريق السريع الخالي الذي أعرفه جيداً، طريقاً بطيئاً كئيباً مغلفاً بالوحشة. سمحت لي بتكرار تدقيق النظر في الجالس معي على الطريق، وعجزت أقرأ أي شيء في ملامحه!
محضر تحقيق: قال المتهم: وهل ستستمع لما سأقوله؟ المحقق مستغرباً: لماذا؟ المتهم: لأن سبب وجودي هنا أنني أبحث من زمن عن أحد يسمعني؟
زامر الحي: اهتمام أبي الزائد بضيفة القادم من خارج الحي وإنزاله المنزلة الرفيعة في المجلس جعلاني حريصاً على الجلوس معهم, والاستماع لما يقولون فيه، وشدني إليه أكثر.. الضيف الذي جعلني اكتشف أن لأبي مزماراً يجيد العزف عليه متى شاء ولكن سكان الحي كانوا يفضِّلون الاستماع إلى عزف غيره ولم يقوموا يوماً بدعوته ليشارك في مناسباتهم.
وسيلاحظ القارئ أن تلك النهايات تشترك في عدة نقاط.. منها:
- إثارة التعجب كما تبعث أكثر من تساؤل. ففي زامر الحي نجد تبرعم عدة أسئلة: لماذا يرفض سكان الحي أن يشاركهم الزامر مناسباتهم؟ ثم من يكون ذلك الضيف الذي يفسح له صدر المكان بكل تبجيل؟ إلى آخر ما يمكن أن تثيره تلك العقدة التي حلت محل الإنارة للنص.
ومن نص محضر تحقيق.. تتوارد الأسئلة: ما هي تهمة المتهم؟ ولماذا يبحث منذ زمن عمن يسمعه؟ وماذا لديه من أقوال؟ وهل هو من سعى لكي يجلس على كرسي الاعتراف.. ولماذا؟ وهل هو سوي أم مريض نفسيا؟ ثم من يكون؟!
وفي نص حيرة.. يرافق الإبهام من بداية النص حتى الأسطر الأخيرة.. وفي لحظة يتوقع القارئ أن يجد نهاية تنير له ما كان غامضاً.. وتجيب على ذلك الإبهام فإذا بالكاتب ينهي نصه بعقدة قوية تمثّل لدى غيره من الكتاب بداية لنص مشوق. أو يستخدمها البعض كعقدة قوية لمنتصف النص.. لكننا أمام نص لدية عقدة المنتصف وبديلا عن كشفها يضع مع النهاية نهاية أكثر من تساؤل.
وكما سبق حول نص جنون.. حين يفقد رب الأسرة زوجته وطفلته في حادث مروع.. لكنه يراهم حين يزور حديقة كان يقضي معهم لحظات العطل فيها.. يزور الحديقة وحيداً ليفاجأ بزوجته وطفلته.. لكن حارس الحديقة يمنعه.. بل يقذف به خارج أسوارها.
وأيضاً نص صفعة.. يقودنا الكاتب إلى نهاية غرائبية ففي الوقت الذي سارت أحداث القصة بصورة متصاعدة فيها من التشويق ما يتوقع القارئ أن تنتهي بنهاية سعيدة.. إلا أن العروس تعود برفقة عريسها من التسوق وعلامات صفعه على خدها.. ما يزيد القارئ حيرة متسائلاً عن الأسباب متخيلاً عدة أجوبة على كل سؤال.
وهكذا بقية نصوص المجموعة. نهايات تمثّل عقد مثيرة للتساؤل.. بل تمثّل بدايات لمشاريع قصصية ناجحة لما يحيط الحدث الذي وضعه الكاتب من غموض.
متعة القارئ في هذه النصوص مضاعفة.. فمن بداية النص نجد تلك الإثارة.. وسلاسة السرد وترابط النص.. ثم تلك النهايات التي تدفعه إلى مجموعة من الأسئلة ليعمل وعيه على تخييل ما يمكن حدوثه محاولاً فك تلك العقد.
نهايات اجترحها زين.. تاركاً بصمة الاختلاف التي تخصّه.. أتمنى استثمارها في نصوصه القادمة وتطوير ذلك. فنحن ككتاب نظل باحثين عمَّا يميز كتباتنا.. ويضعها في مقدمة كتابات الآخرين بأي نقطة أو ملمح تطور في البُنى والأساليب.. كما أن دعاة موت القصة سيقفون في حيرة أمام الكتابات الجديدة والجادة التي تعمل على بعث تقنيات مختلفة.
هي تحية لكاتب مثابر وعاشق للسرد.. نتمنى أن نرى جديده.. خاصة بعد هذه المجموعة المبشِّرة بالخير.
اكتفي بما لفت انتباهي وإن كان هناك أكثر من محور لافت في تلك النصوص. أتنمى أن يطرقها نقاد ومهتمون إبداعياً.
- الغربي عمران