د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
تقديم:
لعنوان هذه الورقة زوايا تتصل بالثقافة والتأريخ والمشافهة، كما لها ركنان مهمان هما: الشيخ عبد الرحمن السعدي والأستاذ عبد الرحمن البطحي - رحمهما الله - ولن تتسع الورقة والمدى الزمني المحدود أمامها لبسط القول في ركنيها وزواياها، غير أنها ستحاول المقاربة معها تعريفاً واستشهاداً وخلوصاً إلى توصيات؛ ففي تعريف الثقافة لن يقف الباحث طويلاً عند تعددها واختلافها لإيمانه بتعريف اعتنقه منذ زمنٍ غير قصير؛ وهو القدرة على المحاكمة والحكم دون النظر إلى التأهيل العلميِّ أو الموقع الوظيفيِّ أو النتاج التأليفي والكتابي، وهو مفهوم ينأى بالثقافة عن دنيا الأدباء وعالم الأدب الذين ارتبطت بهم زمناً رغداً لهم جائراً على سواهم؛ ما يجعل المكون العقلي أقرب المفاهيم لربط الثقافة بالمؤهلين لحمل وسم « مثقف « لا التركيم المعلوماتي المجرد، ولعل منافذ المعلومات الرقمية المتمثلة في « مكائن البحث « الآلي تسند هذا التعريف الذي يفصل بين الشكل والمحتوى، أو بين الصورة والإطار.
والتاريخ المعنيُّ هنا هو الإِنسان مرتبطاً بالمكان؛ فللبيئة - لاريب - تأثيرُها المهم على حيوات ساكنيها، ولشخصيتين بحجم « الشيخ « و» الاستاذ « موقعهما الخاص في تاريخ المنطقة المدون والمتداول، وهو ما يجعل قراءتهما ذات لونٍ في التأريخ الثقافي.
ومن حكايات الشيخ السعدي سيتم التركيز على تلك المتعلقة بالتجديد الذي وُسم به الشيخ العلامة، حيث يبقى مشروعاً ومشرعاً في الفكر والفقه والرؤى الدينية بصفته أصلاً مُقعَّداً ما دام مرتكزاً على الأسس الشرعية والاستدلال الصحيح وغير متجاوزٍ قطعية الأدلة المقدسة ثبوتاً ودلالات، وحين يُعد المجددون فإنَّ أسماءً كثيرةً عبر مساحات الوطن الإسلامي يتم استدعاؤُها دون أن يتوقفوا عند مجددين من هذا الوطن يأتي في طليعتهم الشيخ عبد الرحمن السعدي.
أما الشفهية أو الشفاهية (ولا أرى ضيراً في استخدام أيهما نسبةً إلى المفرد « شفة» أو الجمع « شفاه» بعيداً عن اختلاف النحاة في التجويز والأفضلية)، فهي مرتكز معلوماتي في الأدبيات العربية التي فضلت عدم التدوين في مرحلةٍ تأريخيةٍ مبكرةٍ بالرغم من وجود كتبة خطوا المعلقات الجاهلية ودونوا القرآن الكريم على ما تيسر من وسائط وسجلوا الديون والمعاملات؛ لتبقى المشافهة المرتبطة بالرواية والرواة ذات حظوة وحضور، وبها افتخر الشعراء بشعرهم الذي تناقله المشاة والركبان بلسان الراوية الذي مثل وما يزال يمثل حجر الزاوية في توثيق التناقل غير المدون من نصوص وحكايات وأحداث.
وحين نحاول الوصول إلى مصطلح « التأريخ الشفاهي» فإنه يتماس مع الوقائع والشخوص والتبدلات التي لا توثق كتابياً معتمدةً على التناقل سعياً لإجابة استفهامٍ مهم حول كيفية التأريخ لمن لا تأريخ لهم، وهو ما جعل الأوربيين يلتفتون إلى زوايا لا يبلغها الضوءُ في مسيرة أممهم، وتحديداً ما يتصل بالمهمشين وهم متون في حراكهم السياسي خلال وبعد الحربين العالميتين.
والسؤال المهم هنا هو عن مكونات التأريخ؛ أهو ما يسطره الساسة والاقتصاديون والعلماء والإعلاميون ؟ وأين الناس الغائبون عن الأضواء ؟ كما أين رجل الشارع وصاحب الحرفة والكادحون عن هذا التأريخ، وبسط الحديث نظرياً يخرج عن إطار هذه الورقة لكنها ستقدم أنموذجاً كاشفاً لما يعنيه غياب التوثيق عن كثير من صور وسير وأوجه الشخوص والحياة على مستوى الوطن، والقصيم أحد مفرداته الجغرافية والتاريخية، ولعل حكايات الشيخ ومجلس الاستاذ نموذجان معبران عما تعنيه الشفاهية الثقافية.
الرابط بين الشخصيتين
كان صاحبكم وما يزال مهتماً بالشفاهية، مستوحشاً اندثار واختلاط محكياتها بمرور الزمن وغياب الجيل المعاصر لشخوصها وأحداثها، واختلاق قصص لا علاقة لها بها، وإذا كانت شخصية الاستاذ عبد الرحمن البطحي شفاهيةً بامتياز فإنَّ للشيخ عبد الرحمن السعدي حكاياتٍ كثيرةً لم تروها مؤلفاته وتناقلها الناس بينهم وزيد في بعضها وأضيف إليها وبات شبيهاً بالأسطورة التي يُراد لها أن تحمل كل الوجوه في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولذا قصر الكاتب حكايات التجديد لديه فيما تداوله معاصروه وبلغنا عبر النقل المتواتر أكثر مما نقلته الكتب وأعرض عن آرائه الفقهية التجديدية التي تم توثيقها واكتفي بالإشارة إلى شيءٍ منها ومصدر مهم عنها.
وجانب آخر يجمعهما وهو التأثير المباشر خارج مصادر المعرفة المكتوبة؛ فللسعدي كما للبطحي محبوهما المتأثرون بشخصيتيهما قبل علمهما، وهو أمر نادرٌ في هذا الوقت؛ حيث الكتابة عبر الوسائط التقليدية والرقمية وفي العالمين الواقعي والافتراضي هي الأكثر تأثيراً، وقل الاستشهاد بالحكايات الشفاهية عن الشخصيات الثقافية تحديداً وتركز الإعجاب والتأثر على ما هو مقروءٌ ومرئي في حين تضاءل المروي.
وأمر ثالث مهم؛ فنحن مع شخصيتين متقابلتين؛ تتفقان في عدم الانتماء لمدارس العلم الرسمية؛ حيث تحتفي إحداهما بالعلم الشرعي (علم المقاصد) وتحتفي الأخرى بالعلم الدنيوي (علم الوسائل) فكأنِّ اقترانهما يقدم تكاملاً في التأريخ الثقافي الشفاهي للمنطقة.
وأمر رابعٌ وهو أن كليهما حملا ذهناً متوقداً نائياً عن التقليد محتفياً بالتجديد دون أن يتعمدا الظهور أو المظهرية؛ فحملت الشيخَ كتبُه وسيرته وامتد الاستاذ بمريديه ومرتاديه.
وأخيرا فإنَّ جمعهما في ورقة واحدة دعوة لتمثل سيرتين متميزتين في تأريخ منطقة القصيم الثقافي وتكريمِهما بتخليد ذكرهما للأجيال القادمة وتعريف الجيل الناشئ بمروياتهما؛ سواء في مدينتهما أو منطقتهما (يوجد مركز صغير ليس له حضور وشارع ومسجد للشيخ السعدي ولا شيء للبطحي وكنا نتطلع إلى مؤسستين علميتين باسميهما)، فهما علمان نذرا عمريهما لمهامهما التي أكرمهما الله بحملها (في التأليف والفتوى والبحث والتثقيف)، ولن يُخفي عاملاً شخصيّا لا يضعه في ترتيب هذه الروابط فربما هو أولها أو آخرها والأرجح أنه مختلطٌ في مداراتها؛ وهو حبه لهما سماعاً عن الأول وقرباً من الثاني، والمفارقة أنهما عاشا عمراً متماثلاً حيث توفي الشيخ عبد الرحمن عن تسعة وستين عاماً والأستاذ عبد الرحمن عن سبعين عاماً رحمهما الله.
التجديد في حكايات السعدي
للشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي (عنيزة 1307 - 1376هـ) مقولة وضعها الباحث في مقدمة كتابه (من حكايات الشيخ الصادر عن دار بيسان اللبنانية عام 1426هـ - 2006م، وهو كتاب سبق كل الكتب في بابه وربما أثَّر في إصدار بعضها لاحقا) ووردت في «مجموع الفوائد واقتناص الأوابد»:
«.. ويلاحظ في هذه الأوقات التسهيل ومجاراة الأحوال إذا لم يخالف نصاً شرعيّا.. كما أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزاً دون المصالح الخاصة أو الراجحة بل يجاري الأحوال والأزمات ويتبع المنافع والمصالح الكلية والجزئية.. ص 7» وهي عبارة توجز منهج الشيخ التجديدي وسماحته الشخصية.
الحديث عن الشيخ متعة للباحث يُخشى عليه من الامتداد فيه لمحبته له وإعجابه به كما سلف، ولزعمه السعيَ للتخصص «الطوعي» في سيرته وتتبع مسيرته مذ سمع عنه طفلاً واستمع إلى حكاياته شاباً وأسهم في عقد ندوة كبرى عنه وكتب حكاياته في كتاب هو الأصغر بين مؤلفاته لكنه الأكثر انتشاراً فيها، ولذا سيقصر القول على بعض ملامح التجديد التي أُثرت عن الشيخ رحمه الله وأمكن توثيقها بالتواتر عن مجايليه، وعزاها في كتابه إلى مصادرها، ويجتزئها في نقاط سريعة:
- كان له موقف متسامح مع المذياع «الراديو» وكان يستمع منه إلى أخبار الحرب العالمية الثانية، وحين أدار صبي - في منزل أحد مضيفيه - مؤشر الإذاعة على أغنية لم ينهره الشيخ واكتفى ببيان فوائد الإذاعة التربوية والتثقيفية.
- موقفه إيجابي من قراءة الكتاب الأجنبي، وله حكاية مشهودة مع كتاب «ديل كارنيجي»: دع القلق وابدأ الحياة؛ حين ابتاع نسختين منه وقت أن زار لبنان ووضعه في مكتبة الجامع بعنيزة وأهدى نسخة منه إلى صديق له كان يعاني من الضيق، وألف - استقاءً من فكرته - رسالته المعروفة: «الوسائل المفيدة للحياة السعيدة»، كما قرأ كتاب (حياتي) لأدولف هتلر مترجماً، وحين نعى بعض أبناء مدينته على هتلر إساءته للعرب في كتابه كما بلغهم أوضح الشيخ أن الكتاب أُلف بالألمانية وترجم إلى الإنجليزية ثم نقل إلى العربية وربما زيد عليه أو بدل فيه فالواجب التثبت مما ورد في النسخة الأصلية قبل الحكم عليه.
- له رأي واضح في عدم تكفير المبتدعة من الجهمية والمعتزلة ومماثليهم من «أهل البدع» إلا المعاند فيهم، وحين احتج عليه بعض طلبته لأن رأيه مخالف لمذهب الأمة وباطل ومتناقض لم يغلظ لهم القول ورد عليهم بهدوئه ولينه المشهودين، وسجل هذا في رسالة إلى تلميذه البار الشيخ عبد الله بن عبد العزيز ابن عقيل غفر الله لهما، وللحكاية هذه مشابه في موقفه من المدرس المصري فيما عرف بقضية « محمد الديناصوري بمسجد الصويطي» وشرحه المختلف لآية الوصية (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الوصية..) وكيفية الاستشهاد بأحاديث الآحاد وما سببه ذلك من ضجيج كاد يحدث فتنة لولا حكمة الشيخ وتفهمه.
- كان من أوائل من رد على الاستاذ عبد الله القصيمي حين أصدر كتابه (هذي هي الأغلال) وربما من أكثرها تأثيراً لكنه لم يكفره كما فعل كثيرون ودعا له بالهداية، والكتابان مطبوعان فلا نستفيض، وقد يؤخذ على الشيخ رفضه مقابلته حين جمعهما لبنان في منتصف الخمسينيات الميلادية.
- دعا إلى تعلم العلوم العصرية وأنكر من يقف أمامها وسماها: علوم الوسائل التي تسند علوم المقاصد، وجعل من نفسه أنموذجا في العمل « الديني والعلمي» التطوعي عندما ر فض أخذ مكافأةٍ مقابل الإمامة والخطابة وأشرف على معهد عنيزة العلمي في أول عام من تأسيسه (1373هـ) دون أن يقبل بدلاً ماليّا.
- لم يحرم التصوير الفوتوغرافي للحاجة وله لقطة سينمائية سجلها مندوبو جماعة «عباد الرحمن» حين زاروه في مقر سكنه بعاليه من الواضح أنه كان على علم بها، واستقبل بعض قريباته في لبنان وكن محجبات لا منقبات ولم يُروَ أنه أنكر عليهن، بل إن مما يعرفه الباحث من مصادر قريبة للشيخ نقلت عن زوجته - رحمهما الله - أنه وإن لم يُفتِ بجواز كشف الوجه فإنه لا يرى بأساً به ما دامت الضوابط الشرعية مرعية.
- كان له موقف إيجابي من علم الجغرافيا والخرائط بالرغم من تحريم بعض طلبة العلم له إذ ذاك، وقد وضع في مكتبة عنيزة خريطة كبيرة للعالم، كما أعجبه مجسم للكرة الأرضية رآه في بيت ابنه محمد فطلبه منه واستعرض فيه دوران الأرض حول محورها مقراً به ومستزيداً من مواقع الدول وحدودها.
- كانت له رؤيته المختلفة حول «يأجوج ومأجوج» التي لم يستوعبها علماء زمنه، ونال بسببها بعض التعب ولم تنشر في حياته إيثاراً منه رحمه الله لدرء الخلاف.
- كان موقفه داعماً لوجود الأجهزة المبرقة والميكروفونات ولم ير بأساً في كرة القدم التي يلعب بها الصبية كما حضر حفلات مدرسية وفيها مسرحيات (يقال: إنه قد مُثل أمامه دور امرأة فلم ينكره).
- سبق معظم علماء زمنه ومن تلاهم في جواز نقل الأعضاء وفق ضوابط الحاجة وعدم الضرر، وقد عجب أعضاء المجمع الفقهي في إحدى دوراته من تقدمه في هذه الفتوى التي ما تزال تثير بعض الجدل.
- امن - في رأي منسوب إليه عام 1360هـ بإمكان غزو الفضاء والنزول على القمر قبل وصول الأمريكيين الفعلي بثلاثين عاماً وقد توفي - رحمه الله - قبل ان تطأ قدم نيل «آرمسترونغ» أرض القمر ببضعة عشر عاما.
- أعاد للجمَّال علبة الدخان التي سقطت منه، ونسبت الحكاية كذلك إلى قاضيي عنيزة الشيخ علي الراشد( توفي عام 1303هـ) والشيخ عبد الله بن عايض (توفي عام 1322هـ)، ولها مشابه في حكايات الشيخ السعدي حين اشترى منزلاً صغيراً بجوار بيته كي يتيح المجال لابنه محمد فيدعو كل أصدقائه دون حرج عليه لعلمه أن فيهم مدخنين، ووقت السفر كان يوقف السيارة ويذهب بعيداً كي يمنح فرصةً للمدخنين منهم دون عناءٍ أو حرج.
- طلب من البنائين الاستمرار في غنائهم حين سكتوا احتراماً لمروره وهم يعملون، ودخل شاب مجلساً كان فيه الشيخ وهو يغني فلم ينكر عليه.
- زار قبر شيخ الإسلام ابن تيمية في مقابر الصوفية حين سافر إلى دمشق.
- كان يضع العقال على رأسه حين يسافر، وكان يؤم الناس لصلاة العشاء دون بشت.
- ضمَّن خطب الجمعة قضايا الأمة وفي عام وفاته خطب ضد العدوان الثلاثي.
- له رأي في عدم جريان الربا على الأوراق النقدية المتداولة «الأنواط»؛» فلا يحكم لها بحكم النقدين» ويجوز البيع فيها متماثلاً أو متفاضلاً.
- للباحث الشيخ عبد الرحمن بن خالد السعدي رسالة علمية تمت طباعتها مؤخراً عنوانها: (اختيارات الشيخ عبد الرحمن السعدي في المسائل الفقهية المستجدة.. جمعاً ودراسة) وجاءت في ثلاث مئة صفحة وفيها عرض لما رآه الشيخ في قضايا العبادات والمعاملات وفقه الأسرة والجنايات والمسائل المستجدة، وتؤكد علم الشيخ وفضله وتميزه وتقدمه وتجديده وافتراقه - ضمن منهج الاستنباط المدلل - عن علماء زمنه ومن جاء بعدهم، ولم يشر صاحبكم إلى ما ورد فيها اكتفاءً بها.
شفاهية البطحي
- ولد الاستاذ عبد الرحمن بن إبراهيم البطحي في عنيزة ودفن بها ( 1357 - 1427هـ) ولم يكمل تعليمه الرسمي لما بعد المرحلة المتوسطة (فصل بعد إتمامها عام 1377هـ) فعلَّم نفسه بنفسه حتى لا نكاد نعرف له تخصصاً، وبرز في العلوم والفلك والرياضيات واللغة الإنجليزية والتأريخ والشعر والأنساب ووسوم الإبل ومواسم النخيل والآثار وحياة البادية، وكانت له رؤاه التي يتفق معه فيها سواه ويختلفون كما شهد بذلك مجلسه اليومي الذي ابتدأ منزليّاً عام 1380هـ تالياً عودته من لبنان بعد أن أقام بها فترة يسيرة من الزمن لم تتجاوز عاماً وبضعة أشهر في منتصف الخمسينيات الميلادية، وكانت ذات تأثير في تكوينه الذهني ومواقفه الفكرية والتقى خلالها بأعلام مثل: مارون عبود وجورج حنا ومنير البعلبكي، وقد استمر مجلسه قرابة نصف قرن نقله من بيته في «المسهرية» إلى مزرعته « مطلة» شاغلاً معظم وقته؛ مستقبلاً فيه العالم والعامل، والكبير والصَّغير، والمدني والبدوي، والمحافظ والليبرالي، والمتدين والعلماني، مانحاً الجميع اهتمامه دون أن يجد الغني والأكاديمي والوزير مكاناً أقرب منه أو مكانة أهم لديه مما يجده السائق والخادم والفقير.
ما يزال مجلسه عامرا بالرغم من غياب فارسه؛ حيث يواصل أبناء أخيه البررة استقبال محبي عمهم الأثير حيث يشعرون بفضله المباشر عليهم ورعايته لهم، كما يشعر مرتادو منتداه أو مجلسه بحرصه على كل واحد فيهم وتفقده إياهم ومكوثه مع من يشاء منهم وقتاً ممتداً عقب انفضاض الجلسة المقررة من المغرب حتى أداء صلاة العشاء بشكل يومي.حتى صار مجلساً فريداً يؤمه محبوه والباحثون عن المعرفة في كل حقولها من عنيزة وخارجها، وهو المجلس الذي قال عنه الدكتور عبد الله الغذامي: « إنه مجلس من نوع خاص جداً؛ فعبد الرحمن البطحي هو الجلسة والمجلس، وهي جلسة امتدت عمره كله، في كل ليلة من ليالي حياته، يضاف إليه صبحيات وضحويات الإجازات حتى ليالي العيد والجمعة والبرد والمطر، كان المجلس مفتوحاً وفيه الحكاية كلها، لو قال لك قائل: إن هذا المجلس يذكره بمجلس سقراط مع تلاميذه، وقال آخر إنه يشبه مجلس الأصمعي، وثالث إنه يشبه مضارب البادية والسمر، وغيرهم إنه مثل مجالس العقاد، وآخرون إنه جامعة مفتوحة؛ لو قال هؤلاء كل هذه التشبيهات لصحت كلها، ولكل من هذه التشبيهات وجه وصواب».
سماه الغذامي سيد المجالس، ورآه الشيخ عبد الكريم الجهيمان موسوعة كبيرة في مختلف العلوم القديمة والحديثة ومرجعاً لطلبة البحوث والدراسات العليا، وقال عنه الدكتور عبد الله مناع: سقراط عنيزة وفيلسوفها، ووصفه عالم الاجتماع الأمريكي دونالد كول بأنه علامة لا تنساها ذاكرته، كما قال البريطاني جيمس بد: إن زيارة عنيزة لا تكتمل إلا بزيارة البطحي، ووصفه الاستاذ عاشق الهذال بأنه الشخصية الفذة التي تعطي ولا تأخذ، وأشار العالم العراقي « أمريكي الجنسية « الدكتور صالح الطعمة إلى أسفه أن لم يعلم عنه منذ زمن فلم يتعلم منه وتمنى إبراز فكره ومسيرته ونشر مقالاته وكتاباته، وتألم الاستاذ حمد القاضي أن كل ذلك العطاء والرؤى والفلسفة انتهت برحيله، وهو موقف أجمع عليه كثير من الذين زاروه من خارج مدينته، وأكدوا على ضرورة جمع أوراقه وتسجيلاته وتهميشاته وكتاباته.
استضاف منتداه أغلب أهالي مدينته من جميع الطبقات، كما زاره من خارجها كثيرون؛ ومنهم الأساتذة: عبد الكريم الجهيمان وسعد البواردي وفيصل القصيمي وفهد العريفي وصالح الطعمة وثريا التركي وأليسون كيريك ودونالد كول وجيمس بد ومحمد القشعمي ومحمد السيف وعبد الله العبد المحسن ومحمد رضا نصر الله وأحمد الربعي وأحمد السعدون وناصر الحجيلان وكثيرون.
سبعة واربعون عاماً شغلها هذا المجلس دون أن يجد من يوثقه لسبب يسير وهو أن البطحي كان يرفض التسجيل الصوتي والمرئي والتصوير الفوتوغرافي والفديوي وإن لم يُر ممانعاً للورق الذي سجل عليه إجاباتٍ لمن سألوه، ودوَّن فيه معلوماتٍ شاء « هو» العودة إليها وزود سواه بوثائق احتاجوا إليها أو طلبوها، كما بقي قليل من تهميشاته على بعض الكتب التي قرأ فيها وإن كانت مكتبته الشخصية لا توازي اسمه معللاً ذلك أمام من يسأله بأنه إذا قرأ الكتاب اختزنه في ذهنه فلم تعد به حاجة لاسترجاعه أو استعادته.
ما الذي بقي من مجلس البطحي الذي تجاوزت جلساته بالحساب السريع ستة عشر ألف جلسة ( لو قلنا إنها جلسة واحدة يومياً ) علماً أنها جلسات وكل جلسة تمتد ساعات، ولم يتخلف عنها إلا نادراً جداً في حال مرضه أو سفره وكلاهما محدودان.
هذه هي معضلة الشفاهية التي لا نستطيع فيها الاتكاء على ذاكرة الوفاء مثلما لا نثق بثبت الرواية المتناقلة عبر الأجيال؛ فما يقوله حاضر عن غائب يتفاوت وفق القائل وذاكرته ومقاصده وحجيته وتورعه، ومن ثم فإنَّ النسبة إليه تعتمد على موثوقية الناسب، وربما التجأ إليها من نسي أو سها أو قصد انتصاراً لصورة شاء تثبيتها في أذهانٍ خالية أو شبه خالية.
عبد الرحمن البطحي يتكرر في رموز شفاهية أخرى مثل الشيخين الراشد وابن عايض اللذين سبقت الإشارة إليهما، والشيخ صالح العثمان القاضي (توفي عام 1351هـ) الذي نستعيد به ذاكرة القضاة اللماحين الأذكياء ولكن لم توثق حكاياته بعد وربما نسب إليه ما ليس له أو رويت لغيره حكايات هو صاحبها، وهو ذاته حكايات الشيخ عبد الرحمن السعدي التي اجتهد الباحث وسواه في جمعها - كما سلف - اعتماداً على مصادر متعددة، ومنها ما أثبته ابنه الشيخ محمد وسبطه الصديق مساعد فيما بعد، وهو ما يتكرر مع رموز معرفيين وإداريين آخرين، ولنا في تجربة الدكتور عبد الرحمن الشبيلي التي وثق فيها سيرة السفير أبي سليمان ( محمد الحمد الشبيلي ) ملمح مهم يقضي بضرورة التصدي لكتابة السيرة الشفهية في زمن صاحبها إن أمكن أو بأقلام القريبين منه إذا تعذر ذلك ولكن في وقت مقارب لزمنه.
تصدى البطحي لتوثيق سيرة البطل علي الإبراهيم الخياط - وهي سيرة شفاهية - فعلم عنه من لم يكن يعلم به إلا حين يستشهد الناس ببيته الذائع: «هذي عنيزة ما نبيعه بالزهيد» ولو أنصف من نفسه لكتب سيرته أو وثق نتاجه وسجل أو أذن بتسجيل الأهم في حوارات مجلسه مع أنه كان يوصي غيره بذلك كما فعل مع الاستاذ صالح المرزوقي الذي حضه على كتابة تأريخ عقيل روايةً عن أحد أبرز رجال العقيلات في عنيزة والده الشيخ عبد الكريم المرزوقي - رحمه الله - وهو في نظره تأريخ لم يُكتب ولا يمكن اختزاله بصور مجردة متحركة من قوافل الإبل.
كان البطحي يعي جيداً أهمية التوثيق، وما يزال في أوراقه الخاصة ما يمكن جمعه ليحكي بعض مواقفه وآرائه، كما يوجد من يحتفظ لديه بأوراق وتعليقات علمية ونصوص شعرية وصور تخصه، والمرجو أن يتضافر الجميع لإخراجها قبل أن تغيب في دوائر النسيان.
شيءٌ من آرائه
من العسير حصر آراء الاستاذ البطحي أو بعضها حيث لا وثائق تضمها إلا قليلاً مما وعته الذاكرة أو أفضى به لبعض من سأله، وربما جاز تسجيل نقاطٍ عابرة منها:
- له صور شخصية كثيرة «ثابتة ومتحركة» يحتفظ بها بعض أقاربه لكنه كان يرفض التصوير العام، وكان يردد على الجميع كلمته: لا أريد الانفصال عن ظلي.
- حين ارتفعت أسعار السكر احتكره بعض التجار في أوائل التسعينيات الهجرية ولم ير بوادر حل من الوزارة المعنية كتب خطاباً للملك فيصل، وفيه إشارة إلى اهتمامه بالشأن العام وعدم تخوفه من عاقبة ذلك.
- يرى الجميع منتمين إلى نسب ما سواء انتهى إلى قبيلة أم توقف عند جد، ويعد هذا حقاً للجميع ولا بد من المحافظة على شجر انتماءاتهم العائلية والقبلية دون تفاخر أو عصبية.
- لم يسع إلى تكرار الشكوى من فصله من التعليم بالرغم من محاولة معرفة أسبابه دون جدوى، واستشهد في جلسته بقول مارون عبود: إن الشباب يكتفي بالتعليم الجامعي سلاحاً للحياة ولو كان سلاحاً فاسدا.
- كان يطلب من طلبة الصف السادس في مدرسته «العزيزية» كتابة أحلامهم حين يكبرون ويحتفظ بها عدداً من السنين ثم يريهم إياها ليقارنوا بين ما تمنوه وما صاروه.
- يرى عدم قابلية الأسماء التأريخية للتغيير مهما كانت قيمة الشخص المغيرة باسمه أو من أجله.
- يعتز بالتسامح الفكري الذي عاشته مدينته على مر تأريخه، وكثيراً ما حذر من التطرف في الاتجاهين المتعاكسين.
- بالرغم من نسبة البيت الذائع:
يا ديرتي ما لك علينا لوم
لا تعتبي لومك على من خان
للخياط وحبه له فقد زود صاحبكم بوثيقة تثبت نسبته إلى صياح بك يمدح سلطان باشا الأطرش، وسبب الخلط تشابه نصي الشاعرين، ومطلع نص الخياط:
يا عين ياللي حاربت للنوم
من يوم حل القطع بالوديان
وهو ما يدل على موضوعيته وتدقيقه.
- له شعر فصيح جميل «تفعيلي وتناظري» زود بعض أصفيائه بشيء منه أو قرأه عليهم لكنه لم ينشر منه شيئاً في حياته واكتفى بنشر ملحمة الخياط العامية في نسخ محدودة للتداول الخاص.
- يرى النص العامي وسيطاً تأريخيّاً مهماً للحقبة الماضية في حياة أهل الجزيرة عموماً ونجد بشكل خاص ويؤكد على الاهتمام بدراسته.
- رأى أن منطقة القصيم مترابطة وقريباً ستصبح مدينة واحدة لا فواصل جغرافية بين مدنها وقراها، وفي مجلسه التأم الجميع من القصيم وخارجه.
- وجد في القصيمي مفكراً تفكيكياً يبعثر الأشياء ثم لا يعيد تركيبها ثانية، وأُعجب بعقله وثقافته لكنه لم يطمئن إلى منهجه.
- البطحي عروبي معتز بهويته الوطنية والقومية والإسلامية، دون أن ينكر تأثره ببعض التيارات السياسية التي لم يحقق لها النجاح وشرح قصوراً تأسيسياً أسهم في تراجعها.
- لم يهتم بمن ألبسوه أيديولوجيات متعددة، ووصلت بهم الحال إلى تحذير الشباب من غشيان مجلسه خشية تأثيره على أفكارهم، ويشهد الباحث أنه - في السنوات العشر الأخيرة من حياته التي سعد بصحبته فيها - لم يُلمع أي تيار فكري أو سياسي؛ مثلما كان حريصاً على إقامة الصلوات في موعدها جماعةً بندوته اليومية.
- اهتم بنتاج الطلعة من تلاميذه وأصدقائه، وكان له الفضل في تزويد صاحبكم بشعر المبدع الراحل «عبد الملك الحمد البسام» رحمه الله، وتم نشره في الثقافية، كما أُودعت مكتبته مركز ابن صالح.
- مثل وجهاً مشرقاً للمنطقة بشكل عام واستضاف المثقفين الذين وفدوا إليها واشتهر بالكرم والبذل.
خاتمة
ليس لكل الشخوص والحكايات الشفاهية من يهتم بها ويرصدها ويسعى لإبرازها بعد توثيقها، وقد حرص صاحبكم مع العلمين الرمزين «الشيخ والأستاذ» على عقد ندوة وتأليف كتيب عن حكايات الأول وعدد خاص من المجلة الثقافية عن الثاني، وهو جهد المقل، وقام غيره بأكثر مما قام به نحوهما، ولكن يظلان بحاجة إلى مزيد جهود؛ وبخاصة الاستاذ البطحي الذي لم يبق لدينا منه وعنه سوى كتابات متناثرة وتعليقات يسيرة وما وعته صدور وسطور محبيه.
إن من مشكلات التوثيق الشفاهي عدم المقدرة على عزوه إلى مصدر محدد، وهو ما يجعل اختلاط الحكايات والدلالات أمراً محتملاً، كما أنه يحول دون الاعتداد بالمرويِّ حين تتضارب معطياته، وقد قرأنا عن الشيخ والأستاذ ما لم يرد عنهما وما ليس لهما لكن نفي ذلك في زمن تسارع نقل المعلومات وصعوبة ضبطها أمر متعذر.
لدينا شفاهيون كثيرون يحتاجون إلى من يكتب سيرهم، وفيهم رموز دينية وإدارية وعلمية ومجتمعية لم يخلفوا تآليفَ لهم ولم يُكتب عنهم ما يفي بحقهم، وسبق أن اقترح صاحبكم على مركز ابن صالح الثقافي بعنيزة إصدار سلسلة «الرواد» لتحكي أبرز ملامح الكبار الذين مروا ولم توثق سيرهم، وهو ما يوجهه لنادي القصيم كذلك وإلى كل مركز ثقافي على امتداد الوطن لتحتفي الأجيال بمن ساروا فصاروا وهيأوا لمن خلفهم أوراق عمرٍ من الكفاح والنجاح.
إحالاتُ الورقة
- من حكايات الشيخ عبد الرحمن السعدي - إبراهيم التركي - دار بيسان - 2006م
- المجلة الثقافية - صحيفة الجزيرة - عدد خاص برقم 165 «سبعون» - رجب 1427هـ - أغسطس 2006م
- ورقة مقدمة لملتقى نادي القصيم الأدبي ذو الحجة 1436 - أكتوبر 2015م