د. عبد الرحيم جاموس ">
إن جملة المتغيرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، الجارية منذ الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، إثر تفجير برجي التجارة العالمية الذي نسب إلى تنظيم القاعدة، وما أعقبه من أحداث وتدخلات عسكرية وسياسية سافرة للولايات المتحدة في دول الشرق الأوسط، وخصوصاً العربية منها، كشفت عن مدى عمى الألوان المصابة به السياسة الخارجية للولايات المتحدة، والذي أوصلها للإصابة بشلل الكبار، وما نتج عن هذه السياسات الفجة، من قتل ودمار وخراب لدول عديدة وسقوط نظم، وإشاعة حالة من الفوضى والحروب الأهلية في العديد من الدول، وفشل سياسة تصدير الديمقراطية أو فرضها، كل ذلك كشف عن تخبط في الرؤى، وسقوط للأحادية القطبية التي حاولت الولايات المتحدة أن تفرض هيمنتها من خلالها على العالم، بعد غياب الاتحاد السوفيتي، إلا أن السياسة الأمريكية الخرقاء في عهد الجمهوريين، والعرجاء في عهد الديمقراطيين، أدتا إلى مجمل هذه النتائج، وإلى إحداث فراغات إستراتيجية في المنطقة الشرق أوسطية، أتاحت الفرصة أمام قوى إقليمية ناهضة إلى ملئها، في مقدمة هذه القوى، الكيان الصهيوني الذي واصل سياساته العدوانية والتوسعية، على حساب إنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني دون رادع، بغطاء أمريكي لمجمل سياسته العدوانية، منذ أربعة وعشرين عاماً على انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في 31/10/1991م إلى اليوم والذي كان مخططاً له أن ينهي الصراع العربي الإسرائيلي، والتوصل إلى اتفاقات سلام نهائية، وبانفراد السياسة الأمريكية في رعاية المفاوضات لهذا الشأن، تصل جميع الجهود إلى حائط مسدود، ويكشف عن عدم جدية السياسات الأمريكية في إنهاء هذا الصراع، لأنها استهدفت التهدئة له وإدارة الأزمة بين الأطراف، بدلاً من السعي إلى فرض الحلول وفق الشرعية الدولية.
كما أن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، بحجة محاربة الإرهاب، ومن بعدها العراق بحجة تجريده من أسلحة الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب أيضاً، قد فتح الطريق واسعاً أمام نمو الإرهاب، وتسارع وتيرته وتعدد تشكيلاته، وفتح الطريق أمام الدولة الإيرانية، لبناء ترسانتها العسكرية ومد نفوذها ليصل إلى شواطئ البحر الأبيض في سوريا ولبنان وقطاع غزة، وطبعاً مروراً بالعراق إضافة إلى محاولة التمدد في الخليج العربي واليمن، وقد وفرت هذه السياسات الأمريكية المرتجلة، والمصابة بعمى الألوان، وعدم فهم طبيعة المنطقة الشرق أوسطية، وتكويناتها السكانية والعرقية، وتداعيات الصراع العربي الإسرائيلي، أن تتحول إيران إلى دولة إقليمية ذات نفوذ، تبلور هذا الأمر بشكل واضح في الاتفاق النووي الإيراني (5+1)، لتصبح إيران لاعباً رئيسياً وفاعلاً أساسياً في قضايا المنطقة الشرق أوسطية المختلفة.
كما أن تركيا هي الأخرى بدورها والتي حاولت النأي بداية بنفسها عن أحداث المنطقة، والتوجه نحو الغرب الأوروبي، إلا أنها بعد أن أوصدت الأبواب الأوروبية في وجهها، وجدت هي الأخرى أن المجال بات مفتوحاً أمامها للتوجه نحو الشرق، خصوصاً مع حكم حزب العدالة والتنمية، عبر البوابة الإسلاموية السنية، الموازنة أو المواجهة للطائفية السياسية الشيعية، التي تمثلها إيران، وكذلك عبر بوابة الصراع العربي الإسرائيلي، رغم ارتباطاتها الإستراتيجية بالكيان الصهيوني منذ النشأة والتأسيس، دون إغفال لكونها عضواً مؤسساً وفعالاً في الحلف الأطلسي، وفي هذه الأثناء كانت روسيا تنسحب من تركة الاتحاد السوفيتي المنهار، لتعيد بناء روسيا الجديدة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، لتستعيد المكانة والدور المفقودين لها على المستوى الكوني، وتعود لاعباً رئيسياً في صناعة السياسة الدولية، منتهزة حالة الفوضى التي أشاعتها السياسة الأمريكية الخرقاء في الشرق الأوسط، وحالة الشلل التي باتت تعاني منها في إدارة أزمات المنطقة، وإستعار نار الإرهاب الذي تكتوي به المنطقة، والذي بات يهدد انتشاره وعدواه العديد من دول المنطقة والعالم، ولا يخفي الإتحاد الروسي مخاوفه من انتقال هذه العدوى إليه، وإلى الجمهوريات الإسلامية المنسلخة عن الاتحاد السوفيتي سابقاً، ليجد لنفسه مبرراً للتدخل، وبشكل مباشر في أزمات المنطقة، أمام عجز الولايات المتحدة وتحالفاتها في مواجهة الإرهاب، ومن هنا نفهم تصريح سفير روسيا في الرياض المتهكم على السياسة الأمريكية في مواجهة الإرهاب، حين صرح أن (الولايات المتحدة تقود تحالفاً دولياً لمواجهة داعش يفوق التحالف الدولي الذي واجه هتلر .. والنتيجة أنه زادت قوة داعش عدداً وقوة وانتشاراً ...)..
إن روسيا اليوم أصبحت الفاعل الرئيسي في قضايا الشرق الأوسط بعد تراخي القبضة الأمريكية في كل من العراق وسوريا وقبلهما أفغانستان .. فقد أتاحت المجال لنهوض قوى إقليمية من جهة ولدور قد بات بارزاً وحاسماً لروسيا، كل ذلك في مقابل توفير الضمانات الكبيرة للكيان الصهيوني أن لا تكون مجمل التغيرات الجارية في المنطقة العربية مهددة لأمنه ولتطلعاته التوسعية على حساب الحقوق الفلسطينية...
بناءً عليه لابد للهبة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من الاستمرار والتواصل والتطور إلى درجة انتفاضة شعبية عارمة، بأهداف سياسية واضحة ومحددة، تتمثل بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والإستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967م، كاستحقاق أصبح ضرورياً لتجفيف منابع الإرهاب، وضمان أمن واستقرار المنطقة، وهنا تتجلى أهمية الرؤيا السياسية التي عبر عنها الرئيس الفلسطيني في الجمعية العامة في 30/09/2015م، وضرورة تدويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتحريره من القبضة الأمريكية المنحازة، وفرض حل له يقوم على أساس مبدأ الدولتين، وتنفيذ الشرعية الدولية، وهذا يفرض على كافة القوى الفلسطينية الارتقاء في مواقفها وأدائها إلى مستوى التحديات، وإنهاء الانقسام الفلسطيني، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وعقد مجلس وطني تتمثل فيه كافة القوى الفلسطينية، كي يتقدم الفلسطينيون برؤية واحدة إلى العالم، وتكون فلسطين حاضرة وفاعلة في إعادة صياغة النظام الإقليمي للشرق الأوسط، ورقم أساسي في خارطة المنطقة العربية والشرق أوسطية الجديدة، وإلا سوف تجري الترتيبات المستهدفة للشرق الأوسط مرة أخرى دون فلسطين.
- عضو المجلس الوطني الفلسطيني