موسكو - سعيد طانيوس:
اتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمام «منتدى فالداي» المنعقد في مدينة سوتشي، من سورية مطية للإعلان عن أن بلاده استعادت حضورها كقوة عالمية كبرى واسترجعت مكانتها على مسرح السياسة الدولية، سواء في مجالها الحيوي، المتمثل في دول الاتحاد السوفياتي السابق، حيث نجحت في فرض كلمتها على الغربيين في أوكرانيا، أو في مواجهة مشروعات التوسع الأطلسية، أو في منطقة الشرق الأوسط، حيث نجحت في فرض أمر واقع جديد، من خلال التدخل العسكري في سوريا.
وأيضًا على مستوى الاقتصاد الدولي، من خلال مشاركتها في تأسيس التجمعات والمنتديات الاقتصادية الكبرى، وأبرزها تكتل «بريكس» ومنتدى «شنغهاي».
وإلى جانب المقدّمات النظرية التي طرحها بوتين، في مقاربته للسلام العالمي، التي بدت على طرف نقيض من المقاربة الأمريكية، في الشقين الأمني والاقتصادي، فإن التطورات الجارية في سوريا فرضت نفسها على كلمة الرئيس الروسي، أمام الخبراء الأمنيين في سوتشي، وهو حاول أن يبدو واثقًا من قدرة بلاده على فرض رؤيتها للصراع القائم، خصوصًا أن تسلسل الأحداث الميدانية والسياسية خلال الأسابيع الماضية أظهر أن الكرملين بات يملك العديد من مفاتيح الحل والربط.
وانطلاقًا من سوريا أيضًا، قدَّم بوتين رؤية مختلفة لمستقبل الشرق الأوسط، حملت إشارات على أن الحل السوري في متناول اليد، خصوصًا في حديثه عن إعادة الإعمار، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل أيضًا على المستوى الاجتماعي، وتشديده على إمكانية دحر الإرهاب المتمثل في تنظيم «داعش» وأخواته، وتأكيده على سقوط مخطط التكفيريين بإقامة دولتهم، في ضوء صمود دمشق وبغداد اللتين ظلتا عصيتين على الغزوات الإرهابية.
في مستهل حديثه، تحدث بوتين عن ظاهرة السلم والحرب في العصر الحالي، وقال: إن «انتهاء الحرب الباردة أدى إلى نهاية النقاش الإيديولوجي، لكن الجدل الجيوسياسي لم ينتهِ، لأن لكل الدول مصالحها الوطنية القومية».
وأضاف أن «تطوّر تاريخ البشرية كانت ترافقه دائمًا المنافسة بين الدول والشعوب، وهذا أمر طبيعي ومنطقي»، لكنه شدد على أن هذه المنافسة «يجب أن تستند إلى القانون الدولي والمبادئ الدولية، للحيلولة دون أي نزاعات حادة».
وأضاف: «ما زلنا نرى اليوم محاولات لفرض الهيمنة العالمية، بما يؤدي إلى الإخلال بالتوازن الدولي، وهذا يعني أن المنافسة العسكرية يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة، ما يعني تزايد النزاعات الحدودية، حيث تتصادم مصالح الدول الكبرى أو التحالفات الكبرى».
وفي إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة، حذر بوتين من أن محاولات فرض الهيمنة تلك تنطوي على مخاطر كبيرة أن لجهة انتهاء العمل بمنظومة عدم انتشار الأسلحة التقليدية وتقويض أسس معاهدة عدم الانتشار النووي.
وتطرّق بوتين إلى المخططات الأمريكية لإقامة الدرع الصاروخية في أوروبا، فقال: «القضية النووية الإيرانية تم حلها، ولم تعد هناك أي تهديدات من قبل إيران، وبالتالي فإن الذريعة التي استخدمها شركاؤنا الأمريكيون لإقامة الدرع الصاروخية قد زالت، ولذلك، فإننا كنا ننتظر أن يتوقفوا عن تطوير هذه الدرع، ولكن ذلك لم يحصل، لا بل إنهم مستمرون في تطوير المنظومة العسكرية، وقد قاموا باختبارها في القارة الأوروبية قبل أيام، وهذا يعني أننا كنا محقين حين ناقشنا معهم هذه المسألة في السابق».
ورأى بوتين أن «الأمر لا يكمن في (مواجهة) الخطر الإرهابي الوهمي، بل في محاولة الإخلال بالتوزان الإستراتيجي من أجل السيطرة وفرض الإملاءات على الجميع - المنافسين السياسيين والحلفاء على حد سواء - وهذا السيناريو خطير للغاية، ومضر بالجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة».
وحذر بوتين من أن «المناعة ضد الحرب التي اكتسبتها الإنسانية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية قد بدأت تتلاشى... وللأسف فقد صار شائعًا استخدام المصطلحات العسكرية في شتى المجالات الاجتماعية، فهناك الحروب التجارية وحرب العقوبات، وغيرها مما يجري تداوله في وسائل الإعلام».
وقدّم بوتين العديد من الوقائع، للقول إن الولايات المتحدة تفرض العقوبات والغرامات حتى على من تسميهم حلفاءها، متسائلاً: «هل يمكن التعامل بهذه الطريقة مع الحلفاء؟ كلا، بهذه الطريقة يمكن فقط التعامل مع التابعين، الذين خرجوا عن نطاق السيطرة، ويعاقبون لهذا السبب».
وفي الحديث عن العلاقات الاقتصادية الدولية، قال بوتين: «نرى كيف تجري عملية تشكيل تحالفات اقتصادية غير شفافة، وبسرية تامة، وذلك لغرض واضح، وهو إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي لتعزيز الهيمنة وفق المعايير الأمريكية التجارية والاقتصادية وغيرها»، محذرًا من أن «تشكيل هذه التحالفات الاقتصادية من قبل اللاعبين الأقوياء لن يجعل العالم أكثر أمانًا، بل سيزرع ألغامًا، وتربة خصبة للنزاعات القادمة».
في المقابل، أكَّد بوتين المقاربة أن الروسية بشأن العلاقات الاقتصادية مختلفة تمامًا، مشيرًا، على سبيل المثال، إلى أن «علاقاتنا مع شركائنا قد أتت بناء على المبادرة الصينية في إطار مشروع طريق الحرير، ولدينا مساواة كاملة في الحقوق في البريكس وغيره من المحافل الاقتصادية الإقليمية، بعيدًا عن فكرة الحروب التجارية».
وفي الجانب الاجتماعي، لفت بوتين إلى أن «هناك استخدامًا متكررًا لمصطلحَي الحرب والنزاع في معرض الحديث عن العلاقات بين الأديان والقوميات والإثنيات، ونرى اليوم مئات الآلاف من النازحين ممن يحاولون التأقلم مع بيئة اجتماعية جديدة، في حين أن المواطنين الأصليين منزعجون إزاء وصول هؤلاء النازحين، ومن فكرة أن هناك نفقات كبيرة تصرف من موازنات دولهم لتلبية احتياجات اللاجئين»، مشيرًا إلى صعود الكراهية ضد الأجانب التي تشكل دوافع للنزاعات الاجتماعية.
وفي معرض حديثه عن المشهد الدولي، قال بوتين أن القوة العسكرية ستكون أداة للسياسة العالمية، وهذه حقيقة الحياة، ولكن السؤال: هل سيتم استخدام هذه القوة فقط بعد نفاد وسائل أخرى؟»، وهل سيتم استخدام القوة العسكرية في حال ظهور مخاطر مشتركة، مثل الإرهاب، وبموجب قواعد القانون الدولي، أم سيتم استخدامها، لأي ذريعة، بغرض تذكير العالم بماهية صاحب هذه القوة، دونما حل القضايا العالقة؟»
وأضاف: «نشهد حاليًا التطورات الجارية في الشرق الأوسط. لقد تراكمت هناك قضايا وخلافات عرقية ودينية واجتماعية واقتصادية.. ولكن الأخطر أن ثمة محاولات جرت من الخارج لإعادة تشكيل هذه المنطقة أدت إلى انفجار حقيقي، وتدمير للدول، وصعود للإرهاب، وانتقال المخاطر إلى العالم بأسره».
ولفت بوتين إلى أن «التنظيم الإرهابي المسمّى بـ (داعش) قد احتل أراضي شاسعة. فكيف تمكّن من ذلك؟ لو استطاعت تلك العصابات الإرهابية أن تسيطر على دمشق أو بغداد، لكانت تحوّلت إلى دول حقيقية، مهددة العالم أجمع».
وشدد بوتين على أنه «لا يمكن التلاعب بالكلمات، وتقسيم الإرهابيين بين معتدلين ومتطرفين، ولا يمكن القبول بآراء بعض الخبراء بوجود إرهابيين معتدلين... فهل هؤلاء يقطعون الرؤوس بشكل معتدل؟».
وتابع: «صحيح أن إرهابيي (داعش) و(جبهة النصرة) وغيرهما من شظايا (القاعدة) يتناحرون فيما بينهم، ولكن ذلك من أجل اكتساب الأموال والموارد الأخرى، وليس لأسباب أو دوافع إيديولوجية، أما أدواتهم فهي واحدة: الإرهاب، والقتل، وتخويف الناس».
وأشار الرئيس الروسي إلى أنه «خلال السنوات الأخيرة، كانت الأوضاع تتدهور، وكانت البيئة الإرهابية تتنامى، وعدد المسلحين الإرهابيين يزداد، والأسلحة تسلم إلى ما يسمّى المعارضة المعتدلة؛ كانت تجد طريقها إلى يد الإرهابيين، لا بل إن فصائل كاملة كانت تنتقل إلى صفوف الإرهاب».
وتساءل: «لماذا لم تأتِ جهود شركائنا الأمريكيين والغربيين وحلفائهم في حربهم ضد (داعش) بنتائج ملموسة؟ الإجابة واضحة: الولايات المتحدة تمتلك قدرات عسكرية ضخمة، ولكن من الصعب القيام بلعبة مزدوجة، وهي محاربة الإرهاب من جهة، واستخدام جزء من الإرهابيين لإعادة رسم منطقة الشرق الأوسط وإسقاط الأنظمة غير المرغوب فيها من جهة أخرى».
وأضاف: «نعي تمامًا أن الإرهابيين الذين يحاربون في الشرق الأوسط يشكلون خطرًا على الجميع، بما في ذلك روسيا. ومن أجل ذلك دَعَونا إلى تشكيل تحالف دولي واسع ضد الإرهاب أثناء كلمتي في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبعد قبول طلب رسمي من قبل الحكومة السورية، اتخذنا قرارًا لإطلاق عملية عسكرية في سوريا، وهي عملية شرعية تمامًا، وهدفها الوحيد إعادة السلام في هذا البلد، وأنا على ثقة بأن عمل العسكريين الروس سيؤثر بشكل إيجابي في تطورات الأوضاع في سوريا، وسيساعد السلطات السورية في إطلاق التسوية السياسية والقضاء على الإرهاب».
واعتبر بوتين أنه «لا بد من اتخاذ خطوات لإعادة الإعمار، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، للحيلولة دون انتشار الإرهاب في سوريا والعراق، ومن أجل ذلك، لا بد من توحيد الجيش السوري والجيش العراقي وفصائل المقاومة الكردية، وغيرها من فصائل المعارضة المعتدلة القادرة على التصدي للإرهاب».
وشدد على أن الانتصار العسكري على الإرهابيين لن يحل كل القضايا، لكنه سيهيئ الظروف لإطلاق عملية سياسية بمشاركة جميع القوى الوطنية السورية، لأن السوريين وحدهم من سيقرر مصيرهم بمشاركة دولية بنّاءة بعيدًا عن أي إملاءات أو تهديدات أو ابتزاز».
وأضاف بوتين أن «تدمير الدولة السورية قد يؤدي إلى تنشيط العمل الإرهابي، ولذلك فإن ثمة ضرورة لتعزيز المؤسسات الحكومية».
ودعا بوتين المجتمع الدولي إلى التعامل مع سكان الشرق الأوسط «باحترام»، مشددًا على أنه «لا بد من حماية الشباب من تأثير الإرهاب، ولا بد من الفصل بين الإسلام الحقيقي الذي تتمثل قيمته في السلام والخير ومساعدة القريب واحترام التقاليد، وتلك الكراهية التي يزرعها الإرهابيون... ولا بد من وضع خرائط طريق لإعادة إعمار منطقة الشرق الأوسط، بما يشمل بناء المدارس والمستشفيات والمساكن والبنية التحتية»، معتبرًا أن هذه هي الوسيلة الوحيدة الكفيلة «بوقف التدفق الضخم للاجئين إلى أوروبا وعودة من غادروا».
وأشار بوتين إلى أن «سوريا ستحتاج إلى مساعدات مالية وإنسانية ضخمة لعلاج جراح الحرب، ومن أجل ذلك لا بد من تدخل الجهات المانحة، من دول ومؤسسات دولية».
وختم: «نحن مستعدون لتنسيق نشاطاتنا مع الشركاء الغربيين، لكن الأمر الأهم هو أن نتعامل كشركاء في مكافحة الإرهاب، وبإمكان سوريا أن تصبح نموذجًا للشراكة من أجل المصالح المشتركة، وتشكيل منظومة فعالة لإدارة الأزمات»، مشددًا على «ضرورة استخلاص العبر الصحيحة من تجارب الماضي والمضي قدمًا».
إلى ذلك، كشف بوتين، في كلمة لاحقة أمام منتدى فالداي، عن بعض ما دار في اللقاء الذي جمعه بالرئيس بشار الأسد يوم الثلاثاء الماضي.
وقال بوتين: «سأزيح الستار قليلاً عن محادثاتي مع الرئيس الأسد. سألته: كيف سيكون رأيك لو وجدت الآن في سوريا معارضة مسلحة لكنها مع ذلك مستعدة حقا لمعارضة ومقاومة الإرهابيين و(داعش)؟ وما سيكون رأيك لو كان لك أن تساند جهودهم في قتال (داعش) بالطريقة نفسها التي نساند بها الجيش السوري. فرد قائلاً: سأنظر إلى ذلك باستحسان».
وأضاف بوتين: «إننا ندرس الآن هذا الأمر، وسنحاول، إذا نجح، الوصول إلى هذه الاتفاقات».